أبطالُ جنين وإعصار العدوان

نداء الوطن - كتب بكر ابو بكر

بكر أبوبكر

العدوان هو العدوان لا يفرق بفعلته بين جغرافيا وأخرى ولا بين شخص وآخر لا بالعمر ولا بالجنس ولا بالفئة الاجتماعية. لأن فكرة العدوان هي فكرة: هجوم داهم كاسح شرس بقصد التدميرالكلي كأنه إعصار لا يمكن وقفه ما يُعجز الخصم ويشل حركته عن أي فعل معاكس.

يتم العدوان والاجتياح من القوة الداهمة المتحكمة بفرضية يضعها أمامه أن الخطرالمقابل لا يُسحق (والسحق المادي والمعنوي هو المقصود) الا بقوة أضخم وأعظم، وليكون كذلك فهو يُمارَس ضد قوة صغيرة (أو ضد لا قوة بالحقيقة حين المقارنة) لتظهر البشاعة والكوميديا بأجلى صورها فلا تناسب البتة لا في حجم القوة المادية ولا البشرية ولا التقانية (التكنولوجية).

أن تحقق حالة السحق "المادي" من قبل العدوان للضعيف متحققة سواء في الأفراد فيزيائيًا أوفي المنشآت، ومن هنا يختلف العدوان عن الحرب بين طرفين متكافئين.

لا يمكن على سبيل المثال مقارنة الحرب الدائرة بين الغرب والشرق في أوكرانيا مع العدوانات المتكررة للجيش الإسرائيلي التي فاقت السبعة على أرض قطاع غزة البطل، كما لا يمكن مقارنتها بالعدوانات المتكررة على مناطق مختلفة في الضفة الفلسطينية وأبرزها على نابلس وجنين.

العدوان والاجتياح هو إعصار لا حول ولا قوة لك بصده-هكذا يمرّرون بالعقول- وهو غول قادم، مجهول غامض القوة، غير معروف كتلته وجوانبه ومفاجآته، يدهم ما يقابله متسلحًا بنظرية امتلاكه القوة المطلقة و"الحقيقة" المطلقة التي لا يمتلكها سواه، ويُقنع نفسه بها، ومتسلحًا بنظرية ضرب "أوكار الإرهاب" ومتسلحًا بأنه يقدر فلم لا يفعل؟

لا ينفع مع العدوان أن يتسلح بفرضية أنه يقاتل المخربين و"البؤر الإرهابية" التي تستهدف الإسرائيليين-والاحتلال وجيشه ومستوطنيه الإرهابيين أسّ المشكلة- ولا ينفع معه فرضية أنه يسدّ ثغرة عجز السلطة التي أعجزها، ولا يفيد معه فرضية أنه لا يريد حربًا مع الناس، وأنه يدافع عن مواطنيه، ولا يفيد معه أنه ينشد السلام بعدوانه! ولا ينفع معه محاولات الفصل بين المواطنين، ولا ينفع مع الجيش الصهيوني المحتل العمل على تبييض صفحته السوداء في أية تبريرات أخرى.

مع توفر قدرة الدهم الإعصاري للعدوان ضد الضعيف يبقى تحديد الوقت المناسب هو الهدف فقط. ومن هنا يتواصل العدوان الصهيوني-وسيظل يتواصل- بأشكال مختلفة ضد الأرض الفلسطينية، وضد المواطن المناضل الصامد المرابط الثابت على أرضه حتى الاستقلال والتحرير وعودة اللاجئين.

العدوان يستخدم كل ترسانة أسلحته الضخمة بلا خجل ضد جماعة صغيرة! بل بالحقيقة في مقارنة الحجوم متناهية الصغر، لا تكاد تظهر، سواء كانت مسلحة أو غير مسلحة (انظر عدوانات الحرق الرهيبة والضخمة في حوارة-نابلس، وفي ترمسعيا-رام الله، وفي الحرم الابراهيمي-الخليل، وفي مداهمات المسجد الأقصى المبارك).

إن إظهار القوة غير القابلة للصدّ، والقسوة الرهيبة هو هدف بحد ذاته بمعنى أن إحداث الضرر المادي الكبير وتحقيق السطوة، وانتاج القهر هو هدف للمعتدي بحد ذاته. ومن هنا يفترض العدوان أن القهر للإرادات هو سحق نهائي لنفسية الآخر (الصغير أو الضعيف أو محدود القوى) مما يجعل من جماهير المشاهدين من خارج الفئة المتعرضة للهجوم يخاف ويفزع ويلجأ للسكينة فيتحطم البُعد المعنوي والروحي لديه الى الأبد!

في الحالة الفلسطينية بالحقيقة لا تنجح هذه النظرية بتاتًا، أي نظرية قوة الإعصار الداهمة، بل على العكس تمامًا تقوم هي ذاتها بتعزيز حالة الصمود وحالة الثأر وحالات إشعال الثورة واستمرار الكفاح ومواصلة الدرب والمسيرة، جيل يسلم جيل.

لذا فمن الممكن القول أن العامل الأول في صلابة وعظمة وديمومة النضال الفلسطيني -الذي يأتي بعده بكيلومترات العوامل الأخرى- هو العدوان ذاته، نعم العدوان الصهيوني ذاته، لا تستغربوا، فهو المحفّز الرئيس لاستمرار المقاومة والثورة والجهاد التي تصل في كثير من الأحيان لحد الموت، ثم يترافق معه أو يتم جدله بنفس الضفيرة عامل الإيمان الراسخ رسوخ الجبال، الإيمان ذو العزيمة، الايمان الذي لا يلين بأحقية العربي الفلسطيني بهذه الأرض المباركة، وبعدالة قضيته وحتمية انتصار ثورته.

تصبح لدى البطل الفلسطيني والجمهور الفلسطيني الصورة المرئية المشاهدة رأي العين (القتل البشع، والدمار والحرق وسلب الأرض، والطيارات والجنود المدججين بأسلحتهم حتى الأسنان، والمدافع والبنادق والرصاص...الخ) صورة حافزة ودافعة لمزيد من رد الفعل، وتواصل النضال لأجيال قادمة من الفدائيين، وتصبح الصورة المتخيلة أوالمنتظرة أو المرغوبة (ينصركم ويثبت أقدامكم، أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، ثورة حتى النصر، هذا جهاد نصر أو استشهاد....) متكاملة الأجزاء مع الأولى، فهو يرى بأم عينيه من ذات المحتل ما يشحنه الشحنات الأبدية للنضال، ويرى بروحه ما يريده في المستقبل المنظور فيصبح النضال والمقاومة نهج حياة.

يستخدم العدوان قوة الإعصار الداهمة بشكل كاريكاتوري مضحك!

هو استخدام معيب من وجهة نظر المحايد الذي يرى المشهد- وما يدلل من جهة على ضعف نفسية المهاجِم ، وعلى رعبه الى حد الهلع من الآخر.

إن الاحتلال والعدوان بالحقيقة لا يستطيع التصدي للقليل الا بالكثير الفائض القوة (أنظر فكرة سوبرمان البطل الخارق القوَى التي لاتُقهر وغيرها، ....) ما لا يدل الا على خوف شديد وعقلية رعب داخلي عميم، ويدل على فقدان البوصلة الأيديولوجية والسياسية من جهة أخرى، وعدم رغبة بالنظر للآخر أو بتفهم الآخر-المقاوم-الصامد-الأعزل، بل ويدلل على تعملق فكرة تقديس الأنا (الجماعة المتميزة) والنفور والتقزز من الآخر بفهم عنصري ديني ينظّر له ويُنسب للدين.

إن خوف الإسرائيلي المهاجم أبدًا لا يتأتى فقط من عدم قدرته أوعجزه على تدمير الآخر كليًا، بل ومن خوفه الأساس من الاعتراف بعجزه الحقيقي أمام الآخر مهما فعل، لأن ما يفعله من عدوان داهم، وخسائر فادحة يتكرر وسيتكرر إلا حين الاعتراف النهائي بالآخر، والنظر له بندية الخصم ذو الحقوق، واحترامه والنظر بعيون مفتوحة نحو الحل السياسي.

إن خوف المحتل من الاعتراف بعجز قوته الداهمة عن الصمود أمام حق الآخرين، أمام صمود الشعب الفلسطيني البطل، وامام عدالة قضيته الملتهبة، وهو يستخدم كل ما امتلك من وسائل لإطفاء نارها هو خوف سيظل ملازمًا أصحاب القرار الى أبد الصراع.

مقوم العجز هو كامن في صلب القوة الداهمة، ومقوم الضعف في العدوان هو حقيقة القسوة فلا مواجهة عادلة بين منعدم القوة المادية وصاحب السطوة النارية أو الإعصارية. بينما العكس هو صحيح حيث تجد القوة المعنوية العالية والروح الوثابة ومنطق الايمان والعدالة هو مع صاحب القوة الصغيرة، مع الشعب الأعزل، مع الشعب البطل، او المستضعف لذلك فإن الإيمان بالله سبحانه وتعالى وكرمه وبعدالة القضية والنصر والاعداد الحقيقي الطويل النفس هي من مقومات الصمود والثبات ومقاومة المحتل والمعتدي.

في جنين كما كل مدن وقرى ونواحي الوطن يكتب التاريخ بأحرف من نور قوة المظلوم حين يواجه المارد، ويكتب معنى الحقيقة التي تأبى الموت مقابل "الحقيقة" المزروعة بالرعب والكذب والخرافات والدمار، في جنين يكتب أبطال شعبنا العربي الفلسطيني البطل -كما فعلوا ويفعلون في كل المواقع- حقيقة أسطورة الشعب الأبيّ الذي لايموت.

فلسطين 4/7/2023م

#بكر_أبوبكر

 

 

نداء الوطن