الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، استقلالية الانطلاقة ومركزية الوحدة الوطنية

نداء الوطن -

 

أسامة خليفة

باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»

ارتبطت انطلاقة الجبهة الديمقراطية في 22/2/1969 بجانب هام منها بالتحولات اليسارية التي شهدتها مجموع الحركة القومية، لمكوناتها الناصرية والبعثية، بما فيها حركة القوميين العرب بمختلف فروعها منذ بداية الستينات، وبالصراع الفكري والسياسي الذي احتدم بين مختلف أجنحتها في جميع بلدان المشرق العربي، والذي انتهى بانخراط فروعها في تأسيس أطرها الحزبية والنضالية المستقلة في أقطارها بما في ذلك الفرع الفلسطيني الذي كان يعمل منذ 11/12/1967 تحت اسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كما ارتبطت انطلاقة الجبهة الديمقراطية بالتقرير السياسي الأساسي الصادر عن مؤتمر آب/أغسطس 1968 للجبهة الشعبية، حيث يعتبر هذا التقرير الذي قدمه نايف حواتمة الأساس الذي بنت عليه الجبهة الديمقراطية استقلالها الأيديولوجي والسياسي والتنظيمي، إذ استطاع جناح اليسار آنذاك أن يحقق انحياز أكثرية المؤتمر إلى جانب موضوعات هذا التقرير.

ضمن هذا المناخ انطلقت الجبهة الديمقراطية من مقولة أنه لابد من قيادة طبقية جديدة للثورة الوطنية والقومية تتبنى توجهاً ماركسياً لينينياً مستقلاً لبلورة برنامج يضع حلولاً ناجعة للمسألة الوطنية الفلسطينية بمختلف جوانبها، مستجيبة بذلك لحاجات موضوعية كانت قائمة في ذلك الحين لأن ينطلق مثل هذا المشروع، ويشق طريقه كتيار متميز في إطار الثورة الفلسطينية.

لقد تمكنت الجبهة الديمقراطية منذ ولادتها أن تقدم يساراً قادراً على تمثل الخصائص الوطنية للقضية الفلسطينية ومشكلات الصراع مع الاستعمار الاستيطاني الاجلائي الصهيوني، يساراً مستوعباً لخصائص حركة التحرر الوطني العربي في مرحلتها الوطنية الديمقراطية ونضالها ضد القوى الامبريالية والصهيونية والرجعية والتخلف، وهذا ما جعل اليسار مؤهلاً لأن يضطلع بدوره الوطني دون قيود داخلية أو خارجية عليه، تؤثر على حركته الطليعية ومبادراته السياسية، وتعزيز دوره على صعيد القضية الوطنية وتعميق النهج الديمقراطي في الثورة عموماً.

ومنذ التأسيس برز في الفكر السياسي للجبهة محاور ثابتة تعمقت مناحيها واغتنت مضامينها على امتداد أكثر من خمسين عاماً في مجرى العملية الوطنية، وفي قلب هذه الثوابت تقف المقاربة المرحلية للمسألة الوطنية لحركة تحرر وطني شديدة الخصوصية، والموقع المفصلي الذي تحتله في إطار هذه المقاربة قضية الوحدة الوطنية، والعلاقة الوثيقة بين الخط السياسي والحلول التنظيمية للتقدم نحو الأهداف السياسية المحددة على قاعدة تؤمن تعبئة القوى وتحشيدها وتمتين الوحدة الوطنية والائتلاف المنبثق عنها.

قدمت الجبهة نفسها عند التأسيس كجبهة يسارية متحدة، تدعو لإقامة تحالف ديمقراطي ثوري بين العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين، فكانت الديمقراطية الشعبية العنوان الأول الذي حملته تسمية الجبهة في سنواتها الأولى تحدد الهوية الأيديولوجية كأساس وقاعدة في انطلاقتها كمنظمة يسارية مستقلة وجماهيرية مسلحة تجمع بين الفكر اليساري الديمقراطي وخصوصية القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية في مرحلة التحرر الوطني التي تستوجب التقاء جميع الطبقات والتيارات السياسية في ائتلاف وطني عريض محكوم ببرنامج القواسم المشتركة، فقد استقطبت الجبهة سريعاً قطاعات ديمقراطية وشعبية يسارية ذات اتجاهات مختلفة لا تنتسب إلى تنظيم بعينه، كما جذبت فئات موزعة على صفوف الحركة الوطنية والديمقراطية وحركات الشباب بشكل عام، وانضمت إليها على قاعدة هذه السياسة بعد شهور قليلة من التأسيس منظمتان يساريتان : عصبة اليسار الثوري الفلسطيني، والمنظمة الشعبية لتحرير فلسطين، ولاحقاً في العام 1972 أقسام من الجبهة الشعبية الثورية.

أكدت الجبهة الديمقراطية على الوحدة الوطنية انطلاقاً من إيمانها أن لا سبيل لنيل الشعب الفلسطيني حريته واستقلاله وحقه في أرضه الوطنية إلا بنضاله وبوحدة كافة أبنائه المخلصين، وأن عليه في الظروف الصعبة التي يمر بها أن يعزز الوحدة الوطنية ويعبئ كل طاقاته من أجل الخلاص الوطني، وفي نداء صادر عن الجبهة الديمقراطية في المناطق المحتلة تشرين الثاني/نوفمبر1973، دعت إلى توحيد الصفوف في الجبهة الوطنية الفلسطينية في الداخل من أجل انهاء الاحتلال الإسرائيلي، ودعت كافة جماهير شعبنا وطبقاته الوطنية إلى الالتفاف حولها، والاتحاد في صفوفها باعتبارها الأداة التنظيمية الصالحة لقيادة وتوحيد النضال الجماهيري ضد الاحتلال، وقالت منظمة الجبهة الديمقراطية في المناطق المحتلة: لقد آن الأوان لنحزم أمرنا ونناضل بصفوف موحدة متراصة من أجل مصالح شعبنا وحقه في الحياة والوجود المستقل، خذوا قضيتكم الوطنية بين أيديكم، ولا تتكلوا على أحد سوى على قوة شعبكم ونضالكم، ففي هذه اللحظات يتوقف عليكم مصيركم لأجيال قادمة، فإما العودة إلى التشرد والضياع والخضوع الوطني، وإما الاستقلال والحرية والسيادة .. أعلنوا جميعاً إصراركم على حقكم في الاستقلال وتقرير المصير ووحدوا نضالكم في الجبهة الوطنية الفلسطينية لكي تملوا إرادتكم على الأعداء.

إن جميع القوى والشخصيات الوطنية من أحزاب وفصائل مقاومة ومنظمات نقابية وهيئات اجتماعية ودينية وجمعيات نسائية ونواد ثقافية وخيرية، مدعوة الآن، وفي كل وقت، وبشكل ملح، للانخراط في إطار الجبهة الوطنية دون إبطاء والمساهمة الفعالة المنظمة في نضالها من أجل إنهاء الاحتلال وانتزاع حق تقرير المصير، كما أن كافة العناصر الوطنية النشيطة، سواء كانت مستقلة أم منتمية تنظيمياً، مطالبة بالمبادرة فوراً لإقامة وبناء اللجان القاعدية للجبهة الوطنية لتوحيد نضال الجماهير على الصعيد القاعدي في كافة مواقع السكن والعمل والدراسة، والعمل على تنسيق نشاطها مع المؤسسات القيادية للجبهة الوطنية، إن هذه اللجان الوطنية ينبغي أن تنتشر في كل حي وقرية ومعمل ومدرسة، وأن تضم إلى صفوفها جميع العناصر الوطنية النشيطة إلى جانب مندوبي القوى الوطنية المنظمة، فذلك هو الطريق لتصبح الجبهة الوطنية إطاراً لتوحيد وقيادة نضال مجموع جماهير الشعب.

إن الجبهة الديمقراطية تطالب جميع القوى الوطنية الشريفة المخلصة، أن لا تجعل من الخلافات الثانوية في الرأي عائقاً يحول دون اتحادها جميعاً، لمجابهة قوى الاحتلال بصف موحد متماسك، ومهما تكن المذاهب الفكرية والسياسية فإن المصلحة الموحدة لكافة طبقات شعبنا في التخلص من الاحتلال والفوز بالاستقلال الوطني، توفر الإمكانية وتؤكد الضرورة الملحة للاتفاق على برنامج عمل موحد يستجيب للمصالح المباشرة لكافة طبقات وفئات شعبنا، ويفتح الآفاق لتطوير نضاله نحو هدفه التاريخي في العودة وتقرير المصير على كامل ترابه الوطني المحرر من السيطرة الصهيونية وكافة أشكال الاضطهاد القومي والتمييز العنصري.

وترى الجبهة أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الإطار الجامع الموحد لعموم أبناء شعبنا في مختلف مناطق تواجده، وهي وحدها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ولها وحدها حق التعبير عن إرادته الوطنية، وترى أن برنامجها المتمثل بالنقاط العشر يمكن أن يشكل الأساس المتفق عليه وطنياً كحلقة مركزية أولى وليست نهائية، فنجاح شعبنا في إنجاز هذا الهدف لا يشكل حلاً جذرياً ونهائياً للمشكلة الوطنية الفلسطينية التي هي في جوهرها مشكلة الاغتصاب الصهيوني لأرض فلسطين، إلا أن هذا النجاح يشكل خطوة هامة على طريق النضال من أجل حقوقه التاريخية، ويفتح آفاق تطور هذا النضال إلى مراحل أكثر تقدماً وارتقاء، تمكن من تحقيق مطالبه المشروعة إذا ما تم توحيد نضال جماهيره داخل المناطق المحتلة وخارجها تحت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، التي جاء في برنامجها السياسي المرحلي أن المنظمة تناضل من أجل تعزيز الوحدة الوطنية والارتقاء بها إلى المستوى الذي يمكنها من القيام بواجباتها ومهماتها الوطنية والقومية.

انخرطت الجبهة الديمقراطية في عضوية المجلس الوطني في أول دورة يعقدها بعد تأسيسها أيلول/سبتمبر 1969 حيث شاركت بعضوية اللجنة التنفيذية، وتقدمت إلى هذه الدورة بمشروع لتحقيق وحدة القوى والفئات الوطنية الفلسطينية في جبهة تحرير وطنية موحدة، اعتبرت فيه (أن الوحدة الوطنية مهمة مركزية يومية من مهمات حركة المقاومة وكافة القوى الفلسطينية المناضلة، وعلينا أن نناضل جميعاً من أجل دفع العلاقات إلى أرقى شكل من أشكال الوحدة الوطنية، فمسألة الوحدة الوطنية بين فصائل المقاومة والقوى الوطنية المناضلة، مسألة لا تقبل الجدل، فهي واحدة من أهم مشكلات حركة التحرر الفلسطينية، وخلص هذا المشروع إلى أن صيغة الجبهة الوطنية المتكافئة العلاقات والمرتبطة ببرنامج سياسي وعسكري يمثل البرنامج الممكن الالتقاء عليه بين فصائل المقاومة في تلك المرحلة هي الصيغة الأكثر ثورية.

رغم الانتقادات الحادة لليمين الفلسطيني الذي كان ينظر إليه باعتباره تجسيداً «لبرنامج البرجوازية الصغيرة» داخل المقاومة الفلسطينية، فقد اتخذت الجبهة مبكراً موقفاً ناضجاً إزاء مسألة الوحدة الوطنية وانخرطت بدور فاعل في جميع الهياكل الموحدة للثورة ومؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، منطلقة من إدراك مرهف لأهمية الائتلاف الوطني على قاعدة «الوحدة والصراع» أو «الصراع في إطار الوحدة» أو «التحالف مع النقد». حيث طرحت ما يلي:

- إن طبيعة الثورة في مرحلة التحرر الوطني تضع مسألة الوحدة الوطنية دون جدال في مقدمة المعضلات التي لا بد أن تنجح في حلها كي تحرز النصر، إن بناء جبهة متحدة تضم كافة الطبقات الوطنية تشكل راهناً إحدى المهام الرئيسية التي تقف أمامها الثورة.

- ينبغي سلوك سياسة التحالف مع النقد إزاء القيادة الوطنية المهيمنة حالياً، ويعبر عن هذه السياسة شعار: بناء جبهة وطنية تضم كافة فصائل المقاومة على أساس التكافؤ في العلاقات، والاتفاق على برنامج عمل مشترك يمثل الحد الأدنى من نقاط الالتقاء مع ضمان حق كل فصيل في الحفاظ على استقلاله الأيديولوجي والسياسي والتنظيمي وحريته في ممارسة مواقفه بشأن القضايا المختلف عليها، فهذا هو الوجه الآخر من موضوعة «التحالف مع النقد» كي لا تتحول سياسة التحالف إلى وسيلة فقط لتزكية القيادات الحالية وتوطيد مواقعها أمام الجماهير.

- ينبغي فهم التكافؤ كشعار كفاحي وليس كشرط مسبق لأي اتفاق أو تحالف وطني باعتبار أن الإقرار العملي بهذا التكافؤ يتوقف على نسبة القوى السائدة موضوعياً، وبالتالي فإن إحراز التكافؤ يمر عبر النضال من أـجل تعزيز المواقع التنظيمية والجماهيرية والعسكرية لليسار، ويخدم رفع شعار التكافؤ في تسهيل هذا النضال وتوضيح أهدافه في أذهان الجماهير وليس وضع قيود عليه وتكبيله بالشروط المسبقة.

- انتهجت الجبهة بثبات خط الدخول إلى جميع صيغ التحالف الوطني وكافة اتفاقات العمل المشترك التي لا تشكل قيداً على استقلالها، والسعي من خلال هذه الصيغ إلى توسيع نطاق الاتفاق والعمل المشترك باتجاه برنامج الحد الأدنى وإلى تصحيح العلاقات في إطار هذه الصيغ لجهة التكافؤ في تقرير السياسات، في هذا الإطار ومنذ اليوم الأول لانطلاقتها حرصت الجبهة الديمقرطية أن تكون من بين الركائز الأساسية في أول ائتلاف وطني ميداني ممثلاً بــ«الكفاح المسلح» القيادة العسكرية الموحدة للمقاومة الفلسطينية، التي تشكلت على أساس نقطة واحدة هي: تصعيد الكفاح المسلح ضد العدو الصهيوني، وسعت بعد ذلك إلى توسيع مساحة اللقاء وصولاً لإقرار برنامج عمل مشترك، وطرحت مقترحات حد أدنى لتطوير صيغة الائتلاف الجبهوي بوحدة القوى المقاتلة، والتوجيه الإعلامي، والتعبئة السياسية الجماهيرية، والتمثيل السياسي والإعلامي الخارجي والتمويل المالي.. وأكدت على أهمية المكسب الثوري المتمثل بتشكيل القيادة الموحدة، مشيرة إلى مغزى الالتفاف الجماهيري الواسع حولها، وإلى ضرورة تطوير وتعميق هذه التجربة، ودفعت الجبهة نحو إنشاء لجان التنسيق المشتركة على كافة المستويات وفي جميع مجالات العمل، كما شاركت بفعالة في اللجنة المركزية التي أقر صيغتها المجلس الوطني السابع لتضطلع بمهام تنفيذ قراراته والتعاطي مع المستجدات.

وعندما طرحت مسألة تحديد موقف الجبهة تجاه منظمة التحرير عند بداية المناقشات حول تشكيل المجلس الوطني السادس أيلول/سبتمبر1969، وافقت الجبهة على الدخول إلى إطارات منظمة التحرير الفلسطينية، انطلاقاً من استيعاب مغزى التغيير الهام الذي طرأ على أوضاع المنظمة بعد المجلس الوطني الخامس، وما يتيحه هذا التغيير من فرص وإمكانيات لتطوير منظمة التحرير الفلسطينية كإطار عريض للوحدة الوطنية، ونظرة الجماهير الإيجابية إليها بسبب المكانة السياسية والكفاحية التي تمثلها القيادة الوطنية الجديدة التي دفعت بالكفاح المسلح إلى موقع الصدارة، مما عزز تطلع الجماهير إلى المنظمة لتجسد الوحدة الوطنية باكتسابها استقلالية أوسع عن الوصاية العربية الرسمية.

غير أن إقرار الجبهة بهذا التحول الذي طرأ على بنية منظمة التحرير الفلسطينية لم يحل دون استمرار تأكيدها أن المنظمة لن تصبح أرضاً لجبهة وطنية موحدة إلا بعد إحداث سلسلة من التغييرات الديمقراطية على مؤسساتها وعلاقاتها الداخلية، وتحول أجهزتها من أجهزة بيروقراطية ذات بنية وعلاقات برجوازية إلى أجهزة شعبية عاملة في حرب الشعب، وحل الأجهزة الإدارية البيروقراطية القائمة في المنظمة، وإعادة تكوينها من خلال الاعتماد على مزيد من العمل الطوعي.

من هذا المنطلق لم تغب عن بال الجبهة في ذلك الحين الموجبات البرنامجية والتنظيمية المترتب على هذا الطموح في تحول منظمة التحرير الفلسطينية إلى إطار للوحدة الوطنية، فطرحت على المجلس الوطني السادس مشروعاً متكاملاً لبناء جبهة تحرير وطنية موحدة، غير أنها كانت تدرك في الوقت نفسه أن توفير نسبة القوى المطلوبة للتقدم بثبات نحو هذا الهدف ما زال يقتضي نضالاً صبوراً، مع كل هذا استطاعت الجبهة بهذه السياسة أن تنقل مسألة الوحدة الوطنية من إطار دعوات الدمج (عديمة الجدوى، وغير ممكنة التحقيق) في منظمة واحدة التي تقوم على مبدأ «الضم والإلحاق» إلى إطار الاعتراف بواقع التعددية وأسبابها الديمقراطية الموضوعية على أساس برنامجي، وهذا ما لخصته دعوة الجبهة إلى اتفاق جميع فصائل المقاومة على قواسم سياسية مشتركة واستناد وحدتها إلى علاقات داخلية ديمقراطية.

ما يعزز الوحدة الوطنية ليس فرض برنامج وطني من قبل طرف فلسطيني، وإنما مشروع للنقاش المعمق على أوسع مدى، لاجتراح برنامج مشترك ينجم عن حوار وطني مسؤول، ويقوم على أساس من المبادئ والمهمات النضالية تستجيب لظروف الواقع الراهن وتلبي مطلب الأهداف البعيدة.

في الدورة التاسعة للمجلس الوطني تموز/يوليو1971 بادرت الجبهة الديمقراطية إلى تقديم دراسة شاملة حول مسألة الوحدة الوطنية وسبل تحقيقها، وطرحت مشروعاً جديداً مفصلاً ومتكاملاً لإقامة «جيش شعبي موحد»، إلا أن مناورات الاتجاهات المزايدة بشعارات الوحدة الفورية الكاملة حالت حينذاك دون تمكين المجلس الوطني من التعاطي المعمق مع هذه الاقتراحات.

وبادرت الجبهة إلى المشاركة في صياغة مشروع البرنامج التنظيمي لوحدة فصائل الثورة الذي تبنته اللجنة التنفيذية لـ«م.ت.ف.»، في نيسان/ ابريل 1972 وقدمته باسمها إلى المؤتمر الشعبي وإلى المجلس الوطني في دورته العاشرة الذي أقره وتبناه، وقد كان هذا المشروع علامة فاصلة على طريق النضال من أجل تعزيز الوحدة الوطنية، فللمرة الأولى ينبثق هذا المشروع من دراسة جدية جماعية شارك فيها ممثلو كافة الفصائل وعدد من أبرز كفاءات الثورة، وللمرة الأولى يتضمن المشروع حلولاً واقعية لكافة المعضلات التي كانت تعترض طريق توحيد فصائل الثورة متجاوزاً حدود العموميات والمبادئ العريضة، ليرفق بخطة تنظيمية واجرائية تعنى بكافة التفاصيل العملية لإنجاز المشروع ضمن فترة زمنية محددة، وفي المجلس الوطني في دورته الـ«13» آذار/ مارس 1977 أعرب عن أسفه لعدم تنفيذ القرارات السابقة الصادرة عن المجلس الوطني بصدد الوحدة الوطنية،

وفي آب/أغسطس 1978 تقدمت الجبهة الديمقراطية إلى المجلس المركزي لـ«م.ت.ف.» واللجنة الخاصة المنبثقة عنه لدراسة مسألة الوحدة الوطنية بمشروع سياسي وتنظيمي للوحدة الوطنية استوعبت فيه القرارات الصادرة عن الدورات السابقة للمجلس الوطني، والتطورات المستجدة منذ المجلس الوطني في دورته الثالثة عشرة، واستعادت فيه مجدداً صيغة المشروع التنظيمي الذي سبق للمجلس الوطني العاشر إقراره.

إن تجربة الجبهة الديمقراطية في استقلالها الفكري والسياسي والتنظيمي، وفي حفاظها على الوحدة الوطنية بنفس الوقت، تؤكد العلاقة الحية لليسار الفلسطيني في قلب الحركة الوطنية الفلسطينية، فهذا اليسار لم يستقل لينعزل، إنما ليندمج في الوحدة الوطنية اندماجاً ثورياً صحيحاً، وليلعب دوره في إطار هذه الوحدة كطليعة مناضلة تملك الخط السياسي الملموس الذي من خلاله تتحدد الشعارات الوطنية والمهام المرحلية المنسجمة مع المصلحة الجماعية للشعب الفلسطيني بأسره.

احتلت مسألة الوحدة الوطنية الموقع المركزي في الفكر السياسي للجبهة الديمقراطية، وممارستها العملية بدت باكراً منذ لحظات التأسيس الأولى أثناء فترة العمل العلني في الأردن وعلى امتداد تجربة الثورة في مخيمات الشتات في لبنان وسوريا، بل وبرزت بشكل واضح في زمن الانقسامات الحادة التي اجتاحت الساحة الفلسطينية بعد حرب 1982 ضمن تداعيات الغزو الإسرائيلي وصراع المحاور الإقليمية للتأثير بقرار منظمة التحرير الفلسطينية، ومحاولات الجناح المتنفذ في قيادتها الرسمية البحث عن نقاط تلاقي في منتصف الطريق مع مشاريع التسوية التي طرحت في مطلع الثمانينات، لاسيما مشروع ريغان. وقد اتخذت الجبهة الديمقراطية منذ اللحظات الأولى لانقسام فتح عام 1983 موقفاً واضحاً ضد الانقسام والاقتتال مع قناعتها الكاملة بضرورة إجراء إصلاحات ديمقراطية جذرية داخل منظمة التحرير الفلسطينية واستخلاص دروس مجمل مرحلة العمل الوطني على الساحة اللبنانية، وضمن هذه الأجواء عملت الجبهة الديمقراطية على تشكيل التحالف الديمقراطي ومن خلاله بذلت الجهود الكبيرة لمنع تكريس الانقسام والاستقطاب في الحركة الفلسطينية.

وأثمرت جهود التحالف الديمقراطي عن اتفاق «عدن-الجزائر» الذي وقع مع قيادات اللجنة المركزية لحركة فتح، بحث المجتمعون بروح المسؤولية الوطنية الأحداث الخطيرة الدامية التي شهدتها الساحة الفلسطينية، وما تركته من آثار على وحدة النضال الفلسطيني ومكانة وسمعة منظمة التحرير الفلسطينية، وانطلاقاً من ذلك أكد المجتمعون على ما يلي:

أ‌- إن اللجوء إلى السلاح واستخدام العنف بهدف فرض حلول قسرية للخلافات داخل صفوف الثورة، يمس بمسيرة الثورة الفلسطينية ووحدتها، ويتنافى ومقررات المجلس الوطني الفلسطيني التي أكدت على مبادئ الحوار الديمقراطي.

ب‌- رفض كل المحاولات الهادفة إلى شق منظمة التحرير الفلسطينية وتمزيق صفوفها أو اصطناع قيادات بديلة عنها وتأكيد التمسك بوحدة المنظمة وشرعية مؤسساتها.

ج- يتم بحث هذه القضية في دورة المجلس الوطني القادمة على ضوء هذه الأسس.

أدى هذا الحوار الوطني إلى الاتفاق على عقد دورة توحيدية للمجلس الوطني في أسرع وقت، لكن قرار قيادة فتح رسا بالنتيجة على عقد دورة المجلس الوطني في عمان 17/11/1984، والذي فتح الباب أمام عقد اتفاق عمان في 11/2/1985، وأهم ما في هذا الاتفاق أنه يقيد مسبقاً سقف تقرير المصير للشعب الفلسطيني في إطار اتحاد كونفدرالي غير واضح المعالم، كما أنه يكرس صيغة الوفد الأردني-الفلسطيني المشترك، ويتنازل للمؤسسة الأردنية الحاكمة عن تمثيل الشعب الفلسطيني والبحث عن حلول للأرض الفلسطينية المحتلة بعدوان 67، ويفتح الباب أمام مساومة لاحقة مع الولايات المتحدة لمزيد من الاقتراب من صيغة مشروع ريغان.

كرست الدورة السابعة عشرة انقسام منظمة التحرير الفلسطينية، وأدت إلى مغادرة الجبهة الشعبية وجبهة التحرير الفلسطينية التحالف الديمقراطي لتشكيل جبهة الإنقاذ الوطني مع الصاعقة والقيادة العامة وفتح الانتفاضة وجبهة النضال الشعبي الفلسطيني والحزب الشيوعي الثوري، فيما واصلت الجبهة الديمقراطية دورها من أجل بناء الوحدة الوطنية وتجديد ائتلاف منظمة التحرير إلى أن نضجت شروط انعقاد المجلس الوطني التوحيدي في الجزائر في دورته الثامنة عشرة في 20-25/4/1987، بعد قرار اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بإلغاء اتفاق عمان.

شكلت دورة المجلس الوطني الثامنة عشرة التوحيدية في الجزائر محطة فائقة الأهمية على طريق محاصرة النتائج السلبية لحالة الانقسام والتنازع بين المحاور الإقليمية التي سادت الأوضاع الفلسطينية على امتداد أربع سنوات عجاف، فحققت نتائجه انتصاراً للسياسة الوطنية الوحدوية ولجميع القوى التي حملت رايتها وفي المقدمة الجبهة الديمقراطية.

وولّدت اتفاقات أوسلو أيضاً انقساماً وطنياً حاداً، واصلت الجبهة الديمقراطية سياستها الثابتة في السعي لاستعادة الوحدة الوطنية، وفي هذا الإطار تقدمت في 21/2/1997 بمبادرة للحوار الوطني الشامل بهدف «استعادة الإجماع الوطني حول القضايا الراهنة ومفاوضات الوضع الدائم» ألحقتها بمذكرة بنفس المضمون إلى جميع القوى والشخصيات في 15/5/1997.

وأطلقت الجبهة الديمقراطية عبر مؤتمرها الوطني الرابع في أيار/مايو 1998 مبادرة سياسية وطنية دعت فيها إلى عقد دورة للمجلس المركزي لـمنظمة التحرير الفلسطينية بهدف الاتفاق على استراتيجية نضالية وتفاوضية تنطلق من إعلان بسط سيادة دولة فلسطين على أراضيها بعدوان 1967، وفي سياق التحضير لانعقاد المجلس المركزي في شهر نيسان/ابريل 1999 تقدمت الجبهة الديمقراطية بثلاث مذكرات دعت جميعها إلى المباشرة فوراً بحوار وطني جاد وشامل لجميع القوى والشخصيات الوطنية والإسلامية الفاعلة بهدف استعادة الوحدة الوطنية، وكذلك الأمر لدى انعقاد المجلس المركزي في 2-3 شباط /فبراير 2000 قدمت مذكرة «مشروع عمل فلسطيني توحيدي».

إن هذه السياسة الثابتة والمبدئية للجبهة الديمقراطية تنطلق من حقيقة السمة الأساس للحركة الفلسطينية باعتبارها مازالت أمام مهام التحرر الوطني تملي موضوعياً التمسك بالوحدة الوطنية والنضال من أجل استعادتها في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، والانقسام القائم والراهن بين السلطة والمعارضة لا يلغي هذه الحقيقة، وإن طبعها بخصائص معينة تجعل السلطة تنزع إلى تجاهل واقع أنها أسوة بالمعارضة إنما ترزح تحت الاحتلال، فتنزلق إلى تجاوز موجبات الوحدة الوطنية، وأحياناً إلى اختراقها مثل اللجوء إلى الاعتقال على خلفية الموقف السياسي، كما يجعل بعض الأطراف المعارضة تتجاهل القواسم الوطنية المشتركة التي يخلقها واقع اللجوء والاحتلال الذي يرخي بثقله على الجميع، سلطة ومعارضة، فيندفع البعض نحو مواقف انقسامية مغامرة ويستبعد بعضها الآخر، وأحياناً يجزم بعدم إمكانية التوصل إلى هذا القاسم المشترك.

في واقع الانقسام الحالي المؤسسي والجغرافي، والمتزامن مع مشاريع تصفوية أمريكية إسرائيلية خطيرة، باتت استعادة الوحدة تحتل رأس الأولويات الوطنية الفلسطينية، وشرط أساسي لا بد منه ولا غنى عنه لإنجاز الحقوق الوطنية، وترى الجبهة الديمقراطية أن الانقسام يشكل عائقاً رئيسياً في طريق استنهاض الحالة الجماهيرية، في مواجهة المشاريع التصفوية، وخطواتها الميدانية، وفرض الأمر الواقع، الأمر الذي يتطلب من القوى كافة، والحالة الجماهيرية بكل اتجاهاتها، مواصلة الضغط على طرفي الانقسام (حركتي فتح وحماس) لمساعدتهما على الخروج من هذا المأزق، لصالح وضع جديد، يفرج عن الأزمة السياسية للحالة الفلسطينية، في ظل حالة وطنية عامة، غير قادرة بعد على وضع للانقسام والشرذمة، رغم ما بذلته عدد من الفصائل الفلسطينية، (الجبهتين الديمقراطية والشعبية لتحرير فلسطين والجهاد الإسلامي والمبادرة الوطنية) من جهود لإقناع حركتي فتح وحماس بالعودة إلى طاولة الحوار لإيجاد حل للأزمة الداخلية منذ سيطرة حركة حماس على قطاع غزة بالقوة.

كانت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين قد دعت إلى وقف الاقتتال وقدمت مبادرة من بنودها: إصدار قرار مشترك من رئاسة السلطة الفلسطينية ورئاسة الحكومة بوقف الاقتتال وإحالة جميع المتورطين إلى القضاء، وفرض أحكام القانون على الجميع، وتشكيل قوة مشتركة من الفصائل الوطنية لحماية أمن الشعب والمؤسسات الأهلية والرسمية. وفي 12/7 وبعد سيطرة حركة حماس على القطاع، قدمت الجبهة الديمقراطية مبادرة سياسية أخرى تشكل أساساً لحوار وطني شامل يهدف إلى الوصول إلى اتفاق يمكّن الفلسطينيين من الخروج من المأزق الذي تسبب به الحسم العسكري، وذلك بالتراجع عن نتائجه قبل أن يتم تشكيل حكومة انتقالية، وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية جديدة، وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، أبدت حركة حماس اهتمامها بهذه المبادرة من خلال لقاء جمع بين وفد من حركة حماس ووفد قيادي من الجبهة الديمقراطية في غزة.

في منتصف كانون الثاني/ يناير 2022، أعلنت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، عن مبادرتها لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الفلسطينية، التي تقوم على مستويين: منظمة التحرير الفلسطينية، وإدخال حركتي حماس والجهاد الإسلامي فيها، ومستوى السلطة الفلسطينية، لإقامة حكومة وحدة وطنية، وصولاً لانتخابات عامة رئاسية وتشريعية وللمجلس الوطني الفلسطيني. ومازالت مبادرة الجبهة الديمقراطية قائمة لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية وبناء نظام سياسي فلسطيني على أسس ديمقراطية، وانطلاقاً من حرصها على المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، دعت الجبهة الديمقراطية إلى إعادة توحيد الاتحادات الشعبية وفقاً للوائحها وأنظمتها الداخلية، وتنشيط دورها في العلاقة مع جماهيرها، والالتزام بأسس العمل الجبهوي داخل صفوفها، وتفعيل سائر مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية في الداخل والشتات.

المرجع : كتاب: الجبهة الديمقراطية .. النشأة والمسار

الكاتب : المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

الطبعة الأولى: حزيران/يونيو 2001

 

نداء الوطن