مدينة حيفا المحتلة

 

شكل سقوط حيفا في 22 نيسان 1948 ضربة قاضية لمصير المدينة العربية، حيث أن المنظمات العسكرية اليهودية أحكمت قبضتها على جميع أحياء المدينة وشوارعها ومنافذها بالتعاون التام مع سلطات الانتداب البريطاني.

 

وكان واضحًا أن عناصر هذه المنظمات، في ظل التفوق الجغرافي للأحياء اليهودية المقامة على أعالي تلال جبل الكرمل، ستنقض على حيفا العربية المترامية على طول شاطئ البحر وعند منحدرات الكرمل المطِلّة على البحر الأبيض المتوسط ذاته. وهكذا، تم ترحيل قرابة السبعين ألفًا من أهالي حيفا العرب، في حين تم حصر الباقين منهم الذين بلغ عددهم أقل من ثلاثة آلاف، في حيّ واحد تقريبًا يعرف بـ «وادي النسناس» إلى الجهة الغربية من حيفا القديمة.


وهكذا بدأت حيفا العربية تفقد معالمها العمرانية بعدما تمّ هدم عشرات المباني وشق طرقات وشوارع اخترقت المدينة من شرقها إلى غربها، طامسة معالم عربية عديدة.


تغيرت معالم هذه المدينة التي اعتبرها كثيرون عروس الكرمل. ما عادت كما أراد لها أهلها أن تكون، وأن تتطور وتنمو. اخترقتها أيادي المهاجرين – المستوطنين اليهود الوافدين إليها وإلى باقي أرجاء فلسطين من كل حدب وصوب.

 

هؤلاء أحدثوا تغييرات جذرية في مبنى المدينة ليس العمراني وحده، بل الوظيفي، وبالتالي ترك هذا التغيير أثرًا بالغًا في سلوك سكان المدينة وتوجههم في التعامل اليومي مع مدينتهم.


أما اليوم فيبلغ عدد سكان حيفا نحو 270 ألفًا، منهم 35 ألفًا من العرب (زاد عدد العرب الفلسطينيين في حيفا بفعل الهجرة الداخلية من قرى الجليل والمثلث طلبا للعمل والتعليم، وبفعل الزيادة الطبيعية). ويعيش معظم العرب الفلسطينيين في حيفا في أحياء عربية خاصة بهم، وقلّة منهم تعيش في أحياء مختلطة، ومن الأحياء العربية:

 

«وادي النسناس»: ويقع إلى الجهة الغربية من حيفا القديمة، وتقطنه غالبية العرب في حيفا. يعاني الحي تهالك بنيته التحتية، ونقصاً في الخدمات البلدية والحكومية. ويعتبر من أكثر أحياء المدينة اكتظاظا.


«وادي الجمال»: ويقع هذا الحي إلى الجهة الجنوبية من حيفا على الطريق المؤدية إلى يافا، ويبلغ عدد سكانه قرابة 2500 نسمة، منهم 65% عرب والباقي من اليهود. ولا يتوافر في هذا الحي من الخدمات إلا القليل، ويعتبر من الأحياء الحديثة في حيفا العربية، إذ بُني قبل النكبة بسنوات قليلة.

 

«الحليصة»: ويقع هذا الحي إلى الجهة الشرقية من حيفا القديمة. معظم ساكنيه من المواطنين العرب. يُعاني تهالك البنية التحتية، وخدمات البلدية قليلة للغاية.


«الكبابير»: هي في الأصل قرية مستقلة، إنما تمَّ ضمَّها إلى حيفا بعد 1948. ومعظم سكان هذا الحيّ من أتباع المذهب الأحمدي. وفيه عائلات عربية من قرية الطيرة المجاورة المهجرة.

والوضع العام لهذا الحيّ جيد وفيه خدمات بلدية مقبولة، بالإضافة إلى ما توفره مؤسسات الطائفة الأحمدية. ويقع إلى الجهة الجنوبية من حيفا على أحد تلال الكرمل.


«عباس والكرمة»: منطقة ذات جودة حياة أفضل من باقي الأحياء، حيث تتوافر فيها خدمات جيدة، وتتركز فيها معظم المدارس والمؤسسات الخدمية الأخرى.


المحو والأسرلة
عملت بلدية حيفا بتوجيهات من الحكومة الاسرائيلية منذ سقوط المدينة بيد المنظمات العسكرية اليهودية على تبديل الأسماء العربية التي تحملها الشوارع والأزقة والطرقات والأحياء إلى أسماء عبرية ويهودية وصهيونية، وذلك كجزء من عملية طمس المعالم الثقافية والفكرية والروحية العربية التي ميزت حيفا قبل سقوطها. ومنذ العام 1948 إلى يومنا هذا تمّت عبرنة 75% من هذه الأسماء.

 

إن عبرنة الأسماء العربية وأسرلتها تندرج ضمن مخطط إبادة المشهد الثقافي في حيفا وسواها من مدائن فلسطين العربية التي وقعت تحت الاحتلال الإسرائيلي.

 

من جهة أخرى، لم تسعَ بلدية حيفا، التي تنادي بالتعايش السلمي مع العرب، إلى إطلاق أسماء عربية على شوارع المدينة وطرقاتها وأزقتها إلا القليل القليل منها، أي أنها «تكرمت» على المدينة بإطلاق ستة أسماء عربية فقط.

 

والذي يجول في حيفا العربية في أيامنا هذه سيجد صعوبة كبيرة في التعرّف الى معالمها التي كانت بارزة للعيان، وشكلت مشهدًا حضاريا وثقافيا وإنسانيا في مدينة صاعدة ومتألقة.

 

ولكن ما بقي من معالم مادية – عمرانية خير شاهد على أن أهالي حيفا لم يوفروا جهدًا في عمران مدينتهم وتنميتها ودفعها إلى الأمام. ومن أبرز هذه المعالم نورد:


«جامع النصر الكبير أو جامع الجرينة»: بناه القبودان حسن الجزايرلي بعد أن حقق نصرًا على الشيخ ظاهر العمر الزيداني حاكم الجليل في 1775. وشكل هذا الجامع معلمًا مركزيًا في سير حياة المدينة في الفترة العثمانية، حيث أن موقعه المركزي جعل حياة المدينة من حواليه.

 

فإلى غربه الحسبة الكبيرة، وإلى شرقه سوق السمك، ومقابله بل أمامه سوق الحبوب الكبير، ولذا عُرف بــ «الجرينة»، حيث كانت تصل كميات كبيرة وهائلة من الحبوب إلى هذه السوق من حوران وسهول وبطاح الجليل ويتم بيعها أو توريدها بالسفن إلى أوروبا أو مدن أخرى في الشرق.

 

وأقامت بلدية حيفا بالتعاون مع الحكومة العثمانية المركزية برج الساعة عند مدخل جامع الجرينة تكريمًا للسلطان عبد الحميد الثاني في عيد جلوسه، وكان ذلك في العام 1901.


وهذا البرج هو واحد من مائة أخرى تم بناؤها لنفس المناسبة في عشرات المدن والبلدات في أنحاء مختلفة من السلطنة العثمانية.

 

وكان برج الساعة هذا أعلى مبنى في حيفا، إذ كان يمكن مشاهدة منظرة المدينة من شرفته الكائنة في الطابق الرابع من بين ستة طوابق، وكان يمكن رؤية إحدى ساعاته الأربع التي ثبتت في أعلاه من كل زاوية في المدينة. إلا أن هذا المبنى بات قزما فور بناء أبراج ضخمة فيها مكاتب ودوائر حكومة إسرائيل لمنطقة الشمال.


-«جامع الاستقلال»: شيّد هذا الجامع في عام 1924، ويقع إلى الجهة الشرقية من حيفا القديمة. وما يميز هذا المبنى ما يحمله من رمزية تاريخية هامة، إذ تولى خدمته، شيخًا وخطيبا ومأذونا، الشهيد عز الدين القسّام.

 

أسس هذا الشيخ المجاهد حركة مقاومة فلسطينية من عمال وموظفين بسطاء كانوا يرتادون هـــذا الجامع، ولما حان موعد إطلاق شعلة ثورته ارتفع عدد المنضوين تحت راية حركته، التي شكلت انطلاقة الثورة الفلسطينية الكبرى ضد الاحتلال البريطاني والمشروع الاستيطاني الصهيوني. وتولّى خدمة الجامع بعد استشهاد القسّام شقيقه فخر الدين القسّام حتى عام النكبة 1948.


- «عمود فيصل»: عبارة عن نُصب تذكاري عند مدخل حيفا من جهتها الشرقية. ينتصب العمود ذو الأمتار الثلاثة ارتفاعا أمام ناظري كل من يدخل المدينة من جهتها المذكورة. وأقيم هذا النصب تكريما للملك فيصل، ملك العراق.

 

وكانت حكومة العراق قد أحضرت جثمان فيصل فور وفاته في سويسرا في 1933 عبر مدينة حيفا لتطيره إلى بغداد ليوارى الثرى فيها. واستقبل الجثمان رسميا وشعبيا إثر وصوله إلى ميناء حيفا.

 

وأصرّ وجهاء المدينة، خاصة ممن عرفوه، على ضرورة تكريمه، فوقع الاختيار على بناء هذا النصب، الذي ما زال يشهد على تلك الحقبة التاريخية التي أمل فيها العرب عامة، والفلسطينيون خاصة، بأن استقلالهم بات قاب قوسين. ويعتبر عمود فيصل مَعلمًا مركزيا في حياة المدينة، بل في حياة القادمين إليها من خارجها، حيث يعتبر نقطة التقاء وتعريف بالجهات والتوجهات في المدينة.

 


- «ساحة الخمرة»: وتُعرَف أيضا بـ «ساحة الحناطير». سُميّت بساحة الخمرة نسبة إلى عائلة الخمرة التي امتلكت مساحات من الساحة في الفترة العثمانية، ولما أدخلت الحناطير التي كانت تجرها الخيول سميت بساحة الحناطير.

 

ورغم تغيير الاسم بعد العام 1948 إلى ساحة باريس، إلا أن أهالي المدينة ما زالوا محتفظين بالاسم العربي كجزء من ارتباطهم بالمكان. وعَرفت هذه الساحة نشاطًا تجاريا وبشريا فعالاً خلال فترة الانتداب البريطاني، إذ منها يجري الدخول إلى المدينة القديمة والخروج إلى الحديثة خارج الأسوار التي لم يبق منها ذكر.

 

وفيها نظمت المظاهرات والاحتجاجات ضد بريطانيا والحركة الصهيونية، وفيها جرت آخر موقعة من معارك حيفا في العام 1948. لهذا تحمل هذه الساحة معاني وذكريات هامة في مسيرة تاريخ المدينة.


- «كنيسة السيدة»: وهي قائمة إلى يومنا هذا في حدود المدينة داخل الأسوار (التي لم تعد قائمة). وبنيت هذه الكنيسة قبل مائة وخمسين عاما، وهي تابعة لطائفة الروم الكاثوليك.

 

وكان إلى جانبها مدرسة ابتدائية خدمت أطفال المنطقة حتى العام 1948. أثناء القصف الشديد الذي قامت به المنظمات العسكرية الصهيونية على الأحياء العربية في حيفا، لجأت مئات العائلات العربية إلى الكنيسة واحتمت بها، وبقي عدد كبير من هذه العائلات إلى ما بعد سقوط حيفا.

 

شكلت هذه الكنيسة محور نشاط وعمل المطران غريغوريوس حجار، الملقب بـ «مطران العرب»، حيث كان يلقي فيها خطاباته التي احتوت على المعاني الدينية والوطنية معا، ومنها كانت تنطلق المظاهرات لتنضم إلى المظاهرات التي كانت تنطلق من جامع الاستقلال ضد سياسات الانتداب. وفيها دفن الحجار في العام 1940.


- «دير مار الياس»: ويعرف موقعه بـ «ستيلا مارس»، أي نجمة البحر. وهو قائم على قمّة جبل الكرمل المشرفة على مدينة حيفا وخليجها والساحل الفلسطيني عند أضيق نقطة.

 

بُني الدير الحالي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وهو تابع للرهبنة الكرملية. يعتقد أن النبي الياس عاش فترة في رحاب المنطقة المقام عليها الدير. يؤمه المصلون من كافة أنحاء فلسطين، خاصّة في شهر تموز حيث يجري الاحتفال بعيد هذا النبي.


- «مقام الخضر»: ويقع عند منحدرات وسفوح الكرمل قريبا من الدير السابق. وتولت عائلة الحسن رعاية هذا المقام إلى عام 1948، عندما حولته وزارة الأديان الاسرائيلية إلى مقام يهودي.

 

وقامت هذه الوزارة بتجريد المقام من كل علاماته الإسلامية التي ميزته على مر العصور. وجدير ذكره، انه لما كان هذا المقام تحت رعاية إسلامية فتح المجال بكل حرية أمام أبناء كافة الديانات، بما فيها اليهودية، من أجل دخوله والصلاة فيه وتقديم النذور، وتشهد على ذلك مجموعة من الصور الفوتوغرافية التي ما تزال في أيدينا.

- «معبد البهائيين»: وهو عبارة عن ضريح لعباس أفندي بهاء، من زعماء الطائفة البهائية. وتم تشييد قبة صُفحت بالذهب، وإلى

جوار المعبد حدائق جميلة جدًّا باتت أحد شعارات مدينة حيفا محليا وعالميا.

 

- «الفنار، أو فيلا عبدالله باشا»: عبارة عن بناية ذات طابقين ثبت في أعلاها فنار، أو منارة ترشد وتوجه السفن والبواخر للدخول إلى ميناء حيفا. بناها عبدالله باشا حاكم عكا، ثم اشتراها رهبان دير مار الياس وجعلوها مدرسة لتعليم اللاهوت والفلسفة، إلى أن حولتها الحكومة التركية في الحرب العالمية الأولى إلى ثكنة عسكرية لما لموقعها من أهمية إستراتيجية.

 

وبقيت ثكنة زمن الانتداب البريطاني، إذ كان يقيم فيها الجنرال مونتغومري أثناء اشتداد المعارك في جبهة العلمين خلال الحرب العالمية الثانية. وبعد العام 1948 وضعت إسرائيل يدها على المبنى وما زال قاعدة عسكرية إلى يومنا هذا لما للموقع من أهمية.


- «تل السّمك»: عبارة عن تل قليل الارتفاع إلى الجهة الجنوبية - الغربية لحيفا، يحوي آثارًا تعود إلى الفترة البيزنطية، كبقايا بيوت وكنيسة وفسيفساء.

 

وجعل منحدر التل والشاطئ القريب منه مسبحًا عُرف بـ «مسبح بوتاجي» نسبة لعائلة بوتاجي الثرية في حيفا التي امتلكته. وبقي هذا المسبح مفتوحا أمام الجمهور إلى عام 1948، عندما صادرته الحكومة الإسرائيلية ووضعت يدها عليه كما فعلت مع باقي أملاك وعقارات المواطنين العرب في حيفا وسواها من مدن وبلدات فلسطين التي تم تهجير وترحيل أهلها عنها بفعل القوة والإرهاب والعنف. ولحق المسبح إهمال شديد منذ ذلك الوقت، ولم يعد مناسبا للسباحة.


إن حيفا وإن فقدت جزءا رئيسا من معالمها بفقدان مواطنيها العرب سكانها الأصليين، إلا أن الباقي فيها من معالم عمرانية وبشرية خير شاهد على أن المدينة العربية ما زال فيها نبض، وما تحتاج إليه هو دعم معنوي. القصد هنا دعم معنوي للباقين من الأهالي.

 

 

نداء الوطن