ابتسام خالد
هل زرتَ عَمَّانَ، وتجولتَ في شوارعها الواسعةِ المضيئةِ ليلاً؛ المزدحمةِ نهارا؟ هل دخلتَ مقاهيها؟ وجلستَ مع كُتابِها وهم ينفخون دخانَ التُمباكِ في مقهى المدينةِ وجفرا؟ هل جلستَ مع شعرائِها ذوي الشعرِ الطويلِ وهم يلعبون النرد؟ وبعضُهم يلقون قصائدَهم، وتتصاعد أنفاسُهم مع الدخانِ المتطايرِ؟ هل خرجتَ صباحَ يومٍ تمشي من قاعِ المدينةِ إلى المدرجِ الرومانيِ؛ تتأملُ المعالمَ والجبالَ الشاهقة؟! أم أنني أنا لم أعشْ في غزةَ التي أمضيتُ فيها سنين عمري وكنتُ أغسلُ جراحي بملحِ بحرِها، وكم من رماحِ ألمٍ أصابتني، وأنا مقيمةٌ فيها؛ كيف لقارئٍ شغوفٍ لا يلتقي بكاتبٍ مبدعٍ في بقعةٍ جغرافيةٍ ضيقةٍ مثلَ قطاعِ غزة؟! لكنْ ما ثبتَ لي أن لقاءَ القارئِ الجيدِ مع الكاتبِ المبدعِ بينهما مسافاتٌ يُقَربُها الكتاب؛ يُسري الغولُ شيطانٌ من غزةَ؛ أولادُه يطاردونني في دورِ النشرِ بعَمَّانَ؛ رُحتُ أغرقُ بين أعمالِه: نساء الدانتيل/ الموتى يُبعثون في غزة (مجموعتان قصصيتان) ورواية غزة ٨٧.
يسرى الغول ابن مخيم الشاطئ في غزةَ، الحاصلُ على الماجستيرِ في العلاقاتِ الدولية/ كاتبٌ من الطرازِ الأولِ في غزةَ؛ في مجال القصةِ والروايةِ، فله أعمالٌ عديدةٌ.
وبعد قراءتي ثلاثةَ أعمالٍ له وجدت أن الكاتبَ يكتبُ في الموتى يبعثون في غزة بعظمةِ اللغةِ الشعريةِ عاليةِ المستوى؛ مع علامةٍ فارقةٍ في السردِ المنمقِ والعميقِ من حيثُ البناءِ الذي يخصُ لبنةَ القصةِ، والأسلوبَ المشوقَ، والموضوعاتِ الحياتيةَ المختلفةَ غيرِ المكررة؛ أما في مجموعتِه الثانيةِ (نساء الدانتيل) فقد وجدتُ اللغةَ أكثرَ بهجةً ورونقاً في المحسناتِ البديعيةِ والبلاغيةِ؛ كانت عاليةَ المستوى في سردِها مما شعرتُ بقوةِ اللغةِ التي يمتلِكُها والحوارِ والدراما والشخوصِ؛ إذ يتمتعُ الكاتبُ بشيفرةٍ خاصةٍ؛ تلك شيفرةٌ لا يعرفُها الا القارئُ النهمُ؛ كاتبٌ لديه عمقٌ فلسفيٌ؛ يطرحُ فكرتَه بطريقةٍ مميزةٍ تبهرُ القارئَ، وتجعلُه يسافرُ في عوالمِ الدهشة، مما يدفعنُي بالقول: إن هذا الشيطانَ استطاع في كتابةِ القصةِ أن يُضيفَ لحركةِ القصةِ العربيةِ نقلةً نوعيةً، وإضافةً شموليةً؛ ستجدُ صداها على المستوى العالمي.
أما في روايته (غزة 87) فقد كتب يسرى الغول هذه الروايةَ متجهاً اتجاهاً آخرَ غيرَ مألوفٍ؛ حيثُ حافظ على خصوصيةِ هذا الشعبِ الذي يحملُ قضيةً ساميةً؛ هنا أجدُ أن الفكرةَ إنسانيةٌ بحتة؛ إذ يُظهرُ الكاتبُ الشعبَ الفلسطينيَ بشراً كائناً حياً؛ يؤثرُ ويتأثرُ بالبيئةِ، والطبيعة المحيطةِ به؛ إذ يخطأُ ويصيبُ، ويندمُ ويتراجع، ويمارسُ حياتَه مثلَ بقيةِ الشعوبِ في شتى بقاعِ الأرض؛ من حيثُ اللغةِ فاجأني الكاتبُ أنها لغةُ السهلِ الممتنع؛ تختلفُ عن لغةِ القصةِ تماماً ولكنَّ السردَ كان متدفقاً في حالةَ البناءِ لحبكةِ الروايةِ؛ حيثُ كانت إسقاطاتُ الكاتبِ اجتماعيةً، وسياسةً سلسةً تخللتْ الأحداثَ جميعَها؛ مع الشخوصِ في الزمانِ والمكانَ، وفي هذه المرحلةِ الحاسمةِ فيما قبلَ انتفاضةِ الحجارةِ؛ قبل الوعيِ المدركِ عند الأجيالِ التى تبعتْ هذه المرحلةَ عامَ التسعين، الذين لم يدخلوا فلسطينَ الداخلَ، ولم ينخرطوا في الكيانِ المحتلِ؛ من هنا نقولُ: إن الكاتبَ الغول كانت لديه فكرةٌ؛ سلطَ عليها الضوءَ بتقنيةٍ سرديةٍ عميقة، وأعطَى الشخوصَ حقَهم إذ أخرجَ المكنونَ الداخليَ لديهم في تلك المرحلةِ؛
يذكر أن يسري الغول صدر له مؤخراً رواية مشانق العتمة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، سبقها في ذات العام مجموعة خمسون ليلة وليلى عن وزارة الثقافة الفلسطينية، وأعمال سابقة سيتم الحديث عنها لاحقاً .