أسامة خليفة باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»
الخطاب السياسي مصدر من مصادر المعرفة، يهدف إلى الإقناع والتأثير على الأفكار والتصورات، وبالتالي يؤثر على السلوك السياسي، من البديهي القول: أن السلوك السياسي المشارك يمتلك ثقافة سياسية وقناعة بأهداف مشاركته، والثقافة السياسية المحدودة تؤثر سلباً على مستوى مشاركته السياسية، لأنها ضرورية لمعرفة حقوق الانسان (المواطن) وواجباته نحو البلد أو الوطن الذي يعيش فيه، ويفترض بالثقافة الشخصية أنها تتمتع بثبات نسبي، وخاصة في جوهرها، إذ أن الفرد يطور ويوسع نطاق معرفته، وفي حالات خاصة من الممكن أن تتغير كلياً، كأن تكون ثقافة الفرد علمانية تتحول إلى دينية والعكس ممكن.
ترتبط الثقافة السياسية باتجاهات وميول وقناعات تشكل بواعث للسلوك، تحدد نوعه وشدته تجاه القضايا السياسية المختلفة، تُعرّف الثقافة السياسية بأنها تلك الأنماط من المعارف التي ترتبط بالموضوعات السياسية فهي جزء من الثقافة العامة، وفي الحالة الفلسطينية يمكن تحديد أهم هذه الموضوعات رغم تنوعها وتعددها، أهمها ( تاريخ فلسطين وتاريخ القضية الوطنية، تاريخ الحركة الصهيونية، الاستعمار البريطاني لفلسطين دوره ومصالحه، تطورات الأحداث، الطبقات الاجتماعية ودورها، الأحزاب السياسية، مكونات النظام السياسي، الحكومات أو المؤسسات السياسية أو الزعامات أو الشخصيات الوطنية المتعاقبة، قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالقضية الفلسطينية، الهجرات والاستيطان اليهودي في فلسطين...). إن الثقافة تشمل معرفة رموز الأمة، وتقاليدها، وتاريخها، والثقافة السائدة والعلاقات الاجتماعية القائمة بين أفراد المجتمع، عندما يفكر الإنسان في هذه المعرفة، يتشكل الوعي الوطني من الإدراك الصحيح للهوية القومية، فالوعي هو حالة من إدراك الفكر، أو تمثل للعالم الخارجي في الذهن، كذلك يتشكل الوعي السياسي عندما يفكر الإنسان بالقضايا السياسية، والوعي هو ما يميز الإنسان وسلوكه، فالحياة الإنسانية حرية وإرادة ومسؤولية، حيث يختار الإنسان السوي سلوكه بكامل الوعي إن لم يكن كل سلوك على الإطلاق فأغلبية نشاطاته.
كان لدراسة، عنوانها ( الأطفال الفلسطينيون جيل التحرير) لباسم سرحان، هدفان: الأول: دراسة مدى الوعي الوطني والشخصي المميز للأطفال الفلسطينيين الذين ولدوا خارج فلسطين، والثاني: معرفة درجة ارتباط هؤلاء الأطفال بوطنهم الأم، توصلت الدراسة إلى أن الأطفال الفلسطينيين يمتلكون درجة عالية من الوعي الوطني فهم يعرفون من أين أتوا؟. ومن هم أعداؤهم؟. وما هي أسباب وضعهم الحالي؟. الأطفال الفلسطينيون يعرّفون أنفسهم كفلسطينيين فقط. الأطفال الفلسطينيون يرفضون التوطين أو التعويض ويصرون على التحرير. فلسطين هي المكان الأوحد الذي يشعر الأطفال الفلسطينيون بأنه وطنهم الحقيقي. يؤمن كل الأطفال الفلسطينيين أن فلسطين عربية. ولاء الأطفال الفلسطينيين الأول هو لوطنهم. يؤمن الأطفال الفلسطينيون أن تحرير فلسطين لن يتم إلا بكفاح الفلسطينيين المسلح.
ترتبط الثقافة الشعبية بعلاقة متينة بالثقافة السياسية والسلوك السياسي، فهي انعكاس لنمط الحياة الفلسطينية ومسارها التاريخي، جذورها وسماتها الأساسية الأبرز تتمثل في نمط الحياة الفلاحية المرتبطة بالأرض، هذه الثقافة تربط المواطن وتوحده مع مجتمعه من خلال قيم الأرض.
كان الاتصال الشخصي القناة الرئيسية الأساسية التي حفظت التراث الفلسطيني ونقله من جيل إلى جيل، ومنذ العام 1948 ونتيجة للنكبة وتشتيت الشعب الفلسطيني ازداد الاهتمام بالتراث وتدوينه عبر دراسات وأبحاث جمعته في كتب، شمل الجمع كل جوانبه من أساطير وخرافات، وحكايات وسوالف، وأشعار وزجل، وعتابا وأغان شعبية، ودبكات ورقصات، وأمثال وأقوال انتقلت في السابق عبر الأجيال بطريقة الاتصال الشخصي المباشرة والشفوي.
تمتاز الثقافة الشعبية بأنها أسهل انتشاراً وأيسر نوالاً لكن يصعب حصرها، لا تحتاج إلى مستوى علمي متقدم لفهمها واكتسابها، مما يجعلها ملائمة لعامة الناس، الاهتمام بهذا اللون ممتع، لكن التعمق به صعب، يتطلب الغوص في التاريخ دون الوصول إلى معلومات دقيقة عن أصولها ومصدرها وحكايتها وقائلها، تتضمن الحكم والأمثال الشعبية تناقضات واضحة، منها ما يدعو إلى التجاهل واللامبالاة ومنها ما يدعو للاهتمام والمشاركة، فهي تعكس طبيعة الحياة بغناها وتنوعها، تبرز أهمية الأمثال والأقوال في علاقة السلوك بالثقافة الشعبية، فتبدو آثارها ومضامينها متناقضة، منها الإيجابي، ومنها السلبي، كـ( الهريبة تلتي المراجل، ألف عين تبكي وعين أمي ما تبكي..)، وهناك أمثال تدعو للحماسة النضالية ومواجهة التحديات وامتزجت هذه الأمثال بأقوال وطنية لزعماء عرب دخلت في المفهوم الشعبي، ليشكل خلاصة تجربة للأمة كلها، مثل القول الشهير للرئيس جمال عبد الناصر: ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وعبارة لياسر عرفات كرر ترديدها: يا جبل ما يهز ريح، وقول الشهيد سعد صايل : نموت لتحيا فلسطين، وأقوال لا يعرف قائلها: فلسطين عروس مهرها الدم.
تنتقل الثقافة الشعبية عبر الأجيال من خلال الاتصال الشخصي والعلاقات الاجتماعية المباشرة، وخاصة أحاديث وحكايات كبار السن، وهؤلاء من جيل النكبة يقلّون، يموتون لكن الصغار لا ينسون، وتتعاقب الأجيال وثمة من ينقل التراث بالطرق التقليدية، وتنتقل معه أخبار نكبة فلسطين ومآسيها، والتجارب الشخصية، بخطاب لا يخلو مَن جاذبية وتشويق، وعواطف تتضمن مشاعر جياشة وصادقة، وتروى الأحداث وفق الآراء الشخصية، فتتباين الروايات بما يخص الثورات الفلسطينية وحرب العام 1948، ولكنها كلها تؤكد بطولة الثوار وتضحياتهم، وشجاعة الأهالي، ومقاومتهم للعصابات الصهيونية المجرمة، مما يجعل لهذه المصادر غير الرسمية للمعلومات أهميتها وتأثيرها، بسبب الرباط العاطفي بين الأجيال، هذا التأثير لا يوجد في نفس الدرجة من القوة في المطالعة وقراءة الثقافة الشعبية من مصادرها الحديثة المدونة والمسجلة، بعد أن استدعى الاهتمام بالثقافة الشعبية كعنصر من عناصر الهوية الوطنية تدوين مفرداتها في كتب ومنشورات أو تسجيلها كصوتيات أو مرئيات، فالشبان واليافعون يجدون متعة في الاستماع إلى هذه الأحاديث، وقد يعترض الشبان على بعض آراء الأجداد والجدات، أو يرفضونها حسب درجة الوعي، ولا تلقى كل وجهات النظر القبول في أسباب النكبة والنكسة، ونجاح المشروع الصهيوني مقابل تعثر المشروع التحرري الفلسطيني، ليس من منطلق صراع الأجيال أو الرفض لإثبات الذات، أو رفض القديم لأنه قديم ورغبة مجردة في التجديد، بل عن منطق الوعي والثقافة والنقد الموضوعي لما هو سلبي في الثقافة الشعبية، ذلك أن الثقافة الشعبية ليست دائماً إيجابية، إذ أن التربية التقليدية حفلت بالكثير من الشوائب عن حكايات الجن والعفاريت التي تكرس العقلية السحرية والاعتقاد بالشعوذة، كما حفلت بقيم عشائرية تقليدية سلبية.
الثقافة الشعبية تعكس مصالح وتجارب قطاعات وفئات اجتماعية مختلفة وبأشكال متباينة، وتعكس بالتالي وعي متباين لمصالح شرائح عديدة، أحياناً تتجه نحو الخنوع وتحاشي غضب السلطان، وأحياناً في تمرد يمثل الشعب أو يرمز له، وقد لا تخلو أحاديث الكبار من تلميح إلى اللامبالاة والتسليم بالأمر الواقع، أو أن الجيل الجديد لا دخل له، أو أن للبيت رباً يحميه، ونفترض على العموم أن الجوانب الايجابية هي الأغلب والأوضح، يواجه الشباب المتحمس هذا "أن أعدوا لهم ما استطعتم من قوة ورباط الخيل"، أما الأحاديث عن جمال قرى ومدن فلسطين فلاقت استحسان الشبان، الإلقاء العاطفي والاستماع المتشوق نمّى مشاعر الانتماء وتعلق الشبان الفلسطينيون من اللاجئين على العموم ببيوت الأجداد وبلداتهم، والرغبة الأكيدة بالعودة إليها وهو ما يدهش الباحثين في أمر الحنين لمناطق لم يعش فيها الشبان الذين عاشوا في مخيمات الشتات، ولم يروها، أو الأدق رأوها في عيون وقصص الآباء والأجداد، هذا الإحساس بالانتماء للوطن هو أساس الشعور بالواجب الوطني، الذي يلزم الفرد أو يدفعه للمشاركة الفاعلة في القضايا الحيوية لشعبه.
ما قيل وحكي من معلومات عن القرية أو المدينة في فلسطين، قيل أيضاً في التعريف بنواحي الحياة الاجتماعية بكل تفاعلاتها وصخبها، ولأحاديث الآباء والأجداد دور هام في نقل صورة كافية عنها وخلق الحافز لدى الكثير من الشبان الذين سعوا إلى المتابعة في التعرف على المزيد من المعلومات في هذا المجال، من موضع الاهتمام ومن موقع الجاذبية للتراث لاسيما الأغاني الشعبية الفلسطينية الجميلة، التي أفادت في التعرف على الجوانب الاجتماعية مثل الزواج والحب، والجوانب الاقتصادية مثل الحصاد والصيد وغيرها.
ظهر في عدد من البحوث فرض عام يربط المشاركة السياسية بتلقي الفرد تحريض الخطاب السياسي، سواء توجه الخطاب إلى نشر الثقافة الرسمية، أم الثقافة غير الرسمية، الثقافة السائدة لدى أفراد المجتمع، أم ثقافة فرعية لجماعة ما، الخطاب السياسي الفلسطيني في جوهره هو خطاب سياسي مقاوم لا يتعلق فقط بالخبر بل أيضاً بتحليله وقد يكون خطاباً حماسياً تحريضاً أو يعرض وجهة نظر إحدى القوى السياسية المختلفة في قضية من القضايا الوطنية، يقول د. ناصر اللحام: «في الخطاب السياسي الفلسطيني ثلاثة عيوب تقتل الإرادة وتفشل العمل، الأول انه منفصل عن الواقع، والمعارض منه والموالي على حد سواء يقول عكس ما يفعل ويفعل عكس ما يقول، والعيب الثاني: عدم الاتفاق على تحديد معسكر الأصدقاء، ولا معسكر الأعداء، وكل حزب أصبح له حلفاء ظاهرين ومخفيين، والعيب الثالث هو تحطم المؤسسة العامة، و"بالتالي يغيب" الخطاب السياسي بما هو خطة عمل متفق عليها، و" برنامج أولويات تصوغها المؤسسة الوطنية" لمواجهة الأحوال، والأهوال القادمة بتحضير كاف يضمن تخطي العقبات والانتصار على الظروف الصعبة» .
أكدت النتائج أن تلقي الفرد لتحريض أكثر حول السياسة سيوجد إمكانية أعظم وأكثر عمقاً للمشاركة، ذلك لا يعني أن استقبال التحريض وما يرمي له الخطاب السياسي سيؤدي حتماً للمشاركة السياسية، بل إن الأشخاص المنجذبين إيجابياً للسياسة من المتوقع أن يتقبلوا تحريضاً أكثر عن السياسة، ووجدت دراسة أخرى أن التعرض للتحريض حول السياسة سيزيد كمية المعرفة السياسية، وستزيد من تثبيت الارتباط بالحزب أو المرشحين وتسهم في اتخاذ الفرد قرارات حاسمة.
الأشخاص يتلقون التحريض ومعاني ومضامين الخطاب السياسي، ويبحثون عنه لأغراض عديدة: ليشبعوا فضولهم للمعرفة، ليساهموا في حل المشكلات، ليشبعوا إحساسهم بالواجب، لاعتقادهم أن المواطن الجيد يجب أن يكون مطلعاً.
أجابت دراسات أيضاً عن تساؤل: لماذا يتجنب الأشخاص التحريض السياسي؟. ترى أن الحاجز الإدراكي لدى الأشخاص الذين ينقصهم التعليم والدراية حول السياسة، وكذلك الصغار في السن يتجنبون التحريض كطريقة لحماية شخصيتهم من مضمون لا يفهمونه ولا يستوعبونه، أما الأشخاص المشغولون الذين يدعون أن لا وقت إضافي لديهم للسياسة، يبتعدون عن التحريض السياسي بادعاء أن السياسة لا تأتي ضمن اهتماماتهم.
أشارت دراسات سابقة إلى عدم وجود علاقة ارتباطية قوية بين متغير المعرفة السياسية، والفعالية السياسية، فالاستماع إلى الأخبار وقراءة الصحف والمجلات، والاهتمام بمصادر المعلومات الأخرى يبقى في دائرة الاهتمام المعرفي النظري، ويتجاوزه أحياناً إلى الالتزام العملي إذا أصبحت المعلومات مكون من مكونات فكره العقائدي.
وحدة المعرفي والسياسي تبدو في أن الممارسة السياسية تقوم على معرفة موضوعية، بشكل تكون فيه هذه الممارسة ذاتها شكلاً من أشكال المعرفة، فالمواطن الذي يهتم بالسياسة ويشارك في الشؤون السياسية، تدفعه ضرورة الممارسة والمناقشة إلى قراءة المنشورات ومتابعة الأخبار والمقالات والتعليقات السياسية، من الطبيعي أن يكون لدى المشارك السياسي معرفة بالمسائل السياسية، وخاصة لدى الشباب الفلسطيني، الوضع العام للفلسطينيين أوجد بيئة اهتمام سياسي في كل الأوساط، جعل المجتمع الفلسطيني مجتمعاً مسيساً، لا يقتصر على المعرفة النظرية بل باستطالة عملية واضحة، نتيجة الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية تجاه المجتمع وقضاياه، فعلى مستوى المعرفة النظرية، يبرز الاهتمام بمتابعة الأحداث المحلية الفلسطينية والعربية والعالمية، باعتبار أن أي حدث يؤثر على مصير الشعب الفلسطيني، وبالتالي على المصير الشخصي، فالسياسة شيء هام في حياة الإنسان الفلسطيني، وقد تكون هناك انقطاعات في المتابعة تبرره الظروف الاقتصادية والاجتماعية، إنما لا يمكن بالعموم القول هناك عزلة وابتعاد كامل، خاصة في زمن الخبر المباشر وتوافر هذه الخدمة على أجهزة الاتصال الحديثة والنشاط الملحوظ على مواقع التواصل.
الاهتمام بمطالعة موضوعات القضية الفلسطينية لا يدل فقط غلى رغبة بتحصيل المعرفة وخزن المعلومات في الذاكرة، بمقدار ما يعبر عن اهتمام خاص بنوع محدد من المعرفة يؤكد الاهتمام بالقضية الوطنية الفلسطينية وبعديها العربي والدولي، وهذا الاهتمام لا ينحصر في المعلومة السياسية بل أيضاً يمتد من قراءة الأدب الفلسطيني، إلى متابعة الفنون الفلسطينية بأشكالها وتنوعاتها وبالأخص ما يتعلق بتراث الآباء والأجداد.