بكر أبوبكر
تناوبت دول الاستعمار الغربي كلها على استعمار قارة إفريقيا -كما فعلت مع غيرها-والتي كان آخرها الاستعمار الفرنسي والانجليزي، بهدف امتصاص ثروات هذه القارة كلها، وإذلال وإخضاع شعوبها الحرة باستتباعها للغرب العنصري بصيغة السيد والتابع أو المالك والعبد في مختلف الشؤون الفكرية والدينية والثقافية واللغوية والاقتصادية، والسياسية لاحقًا، وبتكريس النظرة الدونية لحضارة الإفريقي (والآسيوي) مقابل ذاك السيد القابع في الشمال.
مازالت إفريقيا تعدّ قارة بكر بثرواتها التي لا تنعم بها شعوبها، ومازالت طموحة بقدرات شعوبها المتطلعة للمستقبل المستقل استقلالًا حقيقيًا، ولكنها التي تُقمع بالاستعمار غير المباشر وعبر قيادات مرتبطة بالاستعمار القديم وثقافته ونفوذه.
إن إفريقيا هي ذات القارة التي تعتبر البوابة الرئيسية لتواصل وتعملق الامبريالية الرأسمالية الغربية خاصة في أوربا، من خلال انتهاب كامل ثروات القارة (نفط ومختلف أنواع المعادن) وشعوبها، وما يستتبع ذلك من اللعب الاستعماري على عناصر القبلية والإثنيات العرقية واللغات والأديان ما شتت البلاد والعباد وأفقرها وزرع فيها بذرة الشقاق والقتل والاحتراب حتى اليوم.
إن القوى الاستعمارية بالقارة الافريقية عملت بجد واجتهاد منذ الاحتلال والاستعمار على تفريق وتمزيق الشعوب، وعلى اصطناع ثم دعم طبقات سياسية موالية لها، ونخب ثقافية من الشعوب الإفريقية تابعة للاستعمار القديم، والتي شغلها الشاغل التنظير والترويج للمستعمر ألاجنبي (الانجليزي والفرنسي أساسًا) وثقافته وحضارته "السامية" مقابل النفخ في دونية الثقافات الإفريقية وإظهار عجزها، ومن ضمنه ما يتعلق أيضًا بالحضارة والثقافة العربية الاسلامية في القارة.
وفي المجال مؤخرَا ومن خلال تعدد الانقلابات ظهر عمق الفجوة الكبيرة بين الشعوب الافريقية كلها، وبين عدد من النخب الثقافية والسياسية الحاكمة إزاء الفساد الداخلي المستشري وبطء عمليات الاصلاح، وحجم الظلم القائم والتحكم الأجنبي باقتصاد البلاد وإفقارها، والذي أحد أهم أسبابه المستعمر المهيمن حتى اليوم على الفضاء الإفريقي، وخاصة الاستعمار الفرنسي-غير المباشر- واضح الأصابع في غرب إفريقيا.
في الواقع، خلال الخمسين سنة الأخيرة، بإجمالي 67 انقلابًا تم في 26 دولة في أفريقيا، 16 منهم حدثت في مستعمرات فرنسية سابقة، بما يعنى أن 61%من الانقلابات حدثت في دول أفريقيا الفرانكفونية التي تتحدث اللغة الفرنسية بسبب استعمارها من قبل فرنسا إما لمصلحة فرنسا أو ردعًا لانقلاب مناهض لمصالحها.
لقد كانت الانقلابات الستة الاخيرة خلال عامين في غرب إفريقيا (2021-2023م) تأتي في قلب منطقة النفوذ الفرنسي الاقتصادي-الثقافي-العسكري-السياسي مما يهدد بكل وضوح المصالح الاستعمارية الاستغلالية لفرنسا التي تهيمن على اقتصاد معظم هذه الدول وعملاتها الوطنية وثرواتها، من خلال اتفاقياتها وشركاتها ومرتزقتها العسكريين (وحسب التقارير الموثقة يوجد في افريقيا 1100 شركة فرنسية كبرى، و2100 شركة متوسطة وصغيرة، وثالث أكبر محفظة استثمارية بعد بريطانيا والولايات المتحدة-من تقرير عربي بوست).
فرنسا والاحتلال المباشر وغير المباشر
يعود تاريخ الاحتلال الفرنسي في أفريقيا كما تقول التقارير" إلى الربع الأول من القرن السادس عشر الميلادي، حيث احتل الاستعمار الفرنسي أكثر من 20 دولة أفريقية، وبعد تدمير هذه الدول وقتل زعمائها واستعباد شعوبها بقوانين عنصرية يندى لها الجبين، وتفكيك مؤسساتها استمر هذا الاحتلال المباشر 300 سنة تقريبًا ليتحول اليوم إلى احتلال واستعمار غير مباشر بعد مسرحية ما يسمى (الاستقلال) وفي الواقع لم يكن هذا استقلالًا إلا صوريًا مخادعًا."
هو "كان استقلالًا صوريًا لأنه استبدل بالاحتلال والاستعمار المباشر ما أصبح الاستعمارغير المباشر. والاحتلال/الاستعمار غير المباشر أخطر من الاحتلال المباشر، لأن المحتل سيواجه المقاومة والمعارضة في الاحتلال المباشر بينما لا يواجه المحتل غالبًا أي مقاومة للاحتلال والاستعمار غير المباشر، ثم أي حركة تريد الإصلاح السياسي فستنخرط في الحرب على الوكالة وتتحول الحرب إلى مواجهة بين أبناء البلد الواحد بمساعدة وتوصيات المحتل (وعبر مليشياته ومرتزقته المنشرون في القارة) الذي لن يتحمل إلا القليل جدًا من الخسائر المادية والبشرية."
فرنسا ونهب إفريقيا مقابل حماية الاستبداد
دعنا هنا ننظر فيما استخلصناه من مختلف التقارير التي اطمأننا لمصادرها حول الاستعمار الفرنسي المباشر، وغير المباشر لقارة إفريقيا
1. -منحت فرنسا الدول الأفريقية التي احتلتها الاستقلال مقابل شروط، واتضح حتى الآن أن بعض الشروط خطيرة جدًا ومن أهمها وضع نسبة 85% من مدخولات هذه الدول تحت مراقبة البنك المركزي الفرنسي.
2. -فرنسا تجلب بموجب هذا الاتفاق قرابة 500 مليار دولار كل عام بينما يعيش الأفارقة تحت وطأة الفقر والجوع والأمراض والتخلف والشِقاق والحروب المأجورة. وسوف تحارب فرنسا أي شخص يحاول أن يلقي الضوء على هذا الجانب المظلم من الإمبراطورية الاستعمارية العنصرية السابقة.
3. –قام السياسي الإيطالي"لويجي دي مايو" باتهام فرنسا بوضوح بـ ”إفقار قارة أفريقيا”، وهو نائب رئيس الحكومة الإيطالية (وزير الخارجية من 2019-2022م)، وحيث قال:"إن اتفاقيات ما يُعرف بالاستقلال تجعل من فرنسا خامس اقتصاد في العالم، ولولا هذا الاستغلال الفرنسي الفاحش لثروات الدول الأفريقية لكان اقتصادها في المرتبة 15 عالمیًا".
4. -تؤكد الإحصائيات على سبيل المثال أن فرنسا تسرق اليورانيوم من دولة النيجر على مدى 4 قرون الماضية لأجل تلبية نحو 75% من احتياجاتها من الكهرباء في مجال الطاقة النووية.
5. في الغابون (الموصوفة كويت إفريقيا) على سبيل المثال لفرنسا 350 قاعدة ومنشأة فرنسية، و110 شركة فرنسية، ويتم استغلال المنجنيز واليورانيوم فيها منذ 1961م إضافة لاستخراج الألماس والذهب والحديد عالي الجودة. كما تحتوي على النفط.
6. -فرنسا تقوم باستغلال وتشغيل الأطفال في المناجم، وعبر الاستحواذ على المواد الأولية مثلما يحدث في النيجر مثلًا حيث تستخرج فرنسا 30% من مخزون اليورانيوم الذي تستعمله في مفاعلاتها النووية و%90 من سكان النيجر يعيشون بدون كهرباء.
7. -فرنسا تطبع العملات وتحتفظ باحتياطات النقد القومية لـ 14 دولة أفريقية منذ عام 1961: (بنين، بوركينا فاسو، غينيا – بساو، ساحل العاج، مالي، النيجر، السنغال، توجو، الكاميرون، جمهورية أفريقيا الوسطى، تشاد، جمهورية الكونغو، غينيا الاستوائية، الجابون).
8. –وحسب الاتفاقيات الاستعمارية والاستقلال لدول إفريقيا فإن الأولوية لفرنسا والشركات الفرنسية في الهيمنة الاقتصادية على هذه الدول عبرالحصول على العطاءات والمناقصات العامة.
9. -للفرنسيين الحقوق الحصرية لتزويد جيوش هذه الدول بالمعدات العسكرية وتدريب ضباطها...الخ.
10. -فرنسا لها الحق في نشر قواتها والتدخل العسكري في أي من هذه الدول للحفاظ على مصالحها: تحت ما يسمى "اتفاقية الدفاع" الملحقة بالاتفاق الاستعماري.
11. -الالتزام بجعل اللغة الرسمية للبلاد هي اللغة الفرنسية وأيضًا لغة التعليم
12. -الالتزام بالعملة الفرنسية للمستعمرات ما تسمى"الفرنك الأفريقي".
13. يذكر د.عبدالله الشايجي: أن "فرنسا تستورد الذهب من غينيا، واليورانيوم من النيجر، والنفط من الغابون، والكوبالت من الكونغو، وحديد السيارات من موريتانيا، والشكولاتة من كاكاو ساحل العاج، والخشب من الكونغو، والذهب والمنغنيزيوم والمنغنيز، وحتى كثير من الرياضيين الذين ساهموا بفوز فرنسا بكأس العالم وبطولات رياضية هم من مستعمراتها الأفريقية، لهذا ترفض فرنسا ترك أفريقيا، والتخلي عن المصادر الطبيعية لضرره الكبير على مصالحها واقتصادها ومكانتها وشركاتها!"
14. الى ما سبق من سرقات استعمارية منظمة مستمرة حتى الآن، فإنه منذ عام 1830م فاق عدد ضحايا الاستعمار الفرنسي في الجزائر فقط الـ 10 ملايين شهيد جزائري. كما مارست فرنسا إبادة ثقافية بحق المجتمع الجزائري، وعملت على القضاء الهوية الجزائرية، وأقدمت على تغيير معالم دينية وتاريخية عديدة في الجزائر، لطمس هويتها العربية والإسلامية. كما فعلت بأشكال أخرى في كل من المغرب وتشاد، والسنغال وساحل العاج...الخ، كما استخدمت سكان مستعمراتها الأفارقة دروعًا بشرية في حروبها خاصة الاوربية الاولى والثانية المسماة العالمية.
خاتمة
يذكر عبد الحفيظ علي تهليل في موقع تبيان على الشابكة (انترنت) تحت عنوان: الحكم الخفي والاحتلال غير المباشر: كيف تنهب فرنسا خيرات أفريقيا ، يمكننا القول بلسانه أن:
"الهيمنة الموجودة على العالم ليست فقط هيمنةً أمريكية.. صحيحٌ أنّها مركز الهيمنة الرئيسي على العالم وتدور في رحاها جميع القوى الأخرى ضمن ما يعرف بالنظام العالمي الجديد، ولكنّ بقايا الدول الاستعمارية العظمى مثل الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية ما تزال تستعمر دول العالم وتستعبدها إلى اليوم، ومن أبرزها سيكون بالطبع فرنسا." وإضافة أن: "كل الأيقونات الفرنسية استفادت من الموارد الإفريقية واستغلت رخص الأيدي العاملة، وكثيراً من الأحيان ضعف القانون عبر دعم سياسي للديكتاتوريات الإفريقية مقابل الحصول على امتيازات ضريبية ورقابية. إنها ديكتاتوريات تُمهد لها فرنسا وتحميها. وطغاة تصنعهم على أعينها ليكونوا حراساً لمصالحها ما طلعت الشمس على القارة الحزينة.".
وفي الحقيقة أن الاستعمار الغربي البائد، ونفوذه المتناقص اليوم في ظل العالم القادم متعدد الأقطاب بدأ يفقد مكانته في إفريقيا وخاصة فرنسا، لصالح النفوذ الصيني والروسي، ويعتبر الباحث "بول نانتوليا" من مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية، حسب سكاي نيوز عربية "أنه يتم بناء واحد من كل ثلاثة مشاريع بنية تحتية رئيسية في أفريقيا من قبل الشركات الصينية المملوكة للدولة، ويتم تمويل واحد من كل 5 من قبل بنك السياسة الصينية وأوضح أن روسيا، وهي مصدر رئيسي للأسلحة إلى إفريقيا، تقوم أيضا بمد نفوذها في القارة بما في ذلك من خلال مشاريع التعدين" .
دعنا نختم بالقول أنه بالإضافة للعامل الاستغلالي الاستعماري الرأسمالي الفرنسي باستعباد وبنهب ثروات الشعوب الافريقية تحت غطاء الفرانكفونية والنخب الثقافية والسياسية التابعة لفرنسا والتي تروج لها وتستفيد، فإن نهضة القارة الجديدة قد تداخلت اليوم مع الانفتاح العالمي، والعالم الجديد في طور الانبثاق، والوعي المتزايد بحقيقة الظلم الواقع من الفساد والخلل الداخلي للسياسيين، ومن تلك الاتفاقيات الاستعمارية/الاقتصادية/العسكرية، وممارسة فرنسا دو (الأخ الاكبر) على إفريقيا، هذا بالإضافة لتزايد نمو النفوذ الصيني بالقارة، وذاك الروسي أيضًا وغيره، الذي وضع نماذج تعامل وبدائل مغايرة أمام الأفارقة، فجعلهم يدركون مقدار الاستهانة والظلم، وتزايد خطر الاستعمار غير المباشر وضرورة التحرر منه الى الأبد.
*الحاشية: للنظر في التقارير عن فرنسا وافريقيا في موقع تبيان، وموقع عربي بوست، وموقع مرايانا والمقالات السبعة لهشام روزاق حول الموضوع. ومما قاله "ماوُوْنَا ريماركيه" المدون الأفريقي الشهير ومحرر "سيليكون أفريكا" بالانجليزية بعنوان: أربعة عشر بلدًا إفريقيّا تُجبرها الحكومة الفرنسية على دفع ضريبة لـ”فوائد” الرق والاستعمار. واستنادا للخبير الاقتصادي والاستراتيجي، السنغالي، سيري سي. والاقتصادي سانو مباي، وكما يشيرمامادو كوليبالي، الرئيس السابق للبرلمان الإيفواري (ساحل العاج) في لقاء وكالة الأناضول بتقريرها على الشابكة تحت عنوان: بين فرنسا و إفريقيا.. معاهدة استعمارية تكبّل مصائر بلدان وشعوب القارة السمراء. وملف مركز الانطلاقة للدراسات المعنون: إفريقيا والاستعمار الفرنسي الآن.
بكر أبوبكر فلسطين في 4/9/2023م