ترامب يشعل الحرب التجارية

نداء الوطن - كتب أسامة خليفة

 

أسامة خليفة

كاتب فلسطيني

تتصارع بلدان الاقتصاديات الكبرى حول فوائد التجارة الحرة التي تسعى منظمة التجارة العالمية تسهيلها بالرغم من أن تقاسم هذه الفوائد لا يجري بشكل متساو، وتظهر أرقام التجارة العالمية انعدام المساواة واتساع الفجوة بصورة متواصلة بين الدول الغنية والفقيرة. كما تظهر أن العلاقة التجارية بين البلدان ليست شراكة تجارية بل حرباً تجارية، وتسعى منظمة التجارة العالمية إلى تسهيل التجارة في السلع والخدمات والملكية الفكرية بين البلدان المشاركة وحل الخلافات المتعلقة بالتجارة، وفرض التزام المشاركين بالاتفاقيات التجارية من خلال توفير إطار للتفاوض بشأنها والتي تهدف إلى خفض أو إلغاء الرسوم الجمركية وحصص التوريد والحواجز التجارية الأخرى.

الغريب أن الدولة الأكثر غنى في العالم والمسيطرة على اقتصاده تشتكي من الظلم التجاري الواقع عليها، إذ قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوم الأربعاء (الثاني من أبريل/ نيسان 2025)، إن الولايات المتحدة تتعرض للسلب والنهب من جانب الدول الأخرى، معتبراً سائر شركاء بلاده التجاريين، أنّهم استغلوها اقتصادياً على مدى عقود طويلة عبر فرض رسوم جمركية باهظة على صادراتها إليهم، ويقول ترامب إنه يرغب في فرض الضرائب على الواردات الأجنبية بما يحقق مبدأ المعاملة بالمثل. وأعلن فرض رسوم شاملة على الواردات إلى الولايات المتحدة، وأنّ قراره هذا إنما هو بمثابة «إعلان استقلال اقتصادي» للولايات المتحدة و«يوم تحرير»، وهو في رأيه أحد أهم الأيام في التاريخ الأميركي، ودخلت الرسوم الجديدة حيز التنفيذ أمس الأربعاء 9 نيسان/ ابريل الجاري. وقال ترامب للصحفيين عند توقيعه على رسوم جمركية في شباط /فبراير: «هذا ينطبق على كل دولة، وفي الأساس، عندما يعاملوننا بشكل عادل، فإننا نعاملهم بشكل عادل».

مثل هذه الرسوم تهدف عادة إلى تعزيز الصناعة المحلية وتقليل حجم فاتورة الواردات، وفرض الحواجز التجارية عموماً يؤدي إلى تحقيق هدف حماية الشركات المحلية، وهذه طموحات مشروعة، والشركات المحلية التي تحظى بالحماية قد تستفيد من السياسات الموضوعة، ولكن العديد من الشركات الأخرى تنتهي إلى المعاناة لأن الدولة الأجنبية سوف تفرض حواجز على السلع الأخرى، لذا تحقيق هذه الأغراض يجب ألا يتم عبر شن حروب تجارية، وفي حالة اندلاعها، فإن الدولة الأخرى ترد بفرض سياساتها بحماية شركاتها، وهو ما يحدث في كثير من الأحيان.

يعتقد ترامب أن التعريفات الجمركية سوف تعزز سياسته الاقتصادية «أمريكا أولاً » من خلال خفض العجز التجاري للبلاد مع تحسين القدرة التنافسية للمصنعين الأمريكيين، ليدخل الولايات المتحدة فيما يسميه «عصر ذهبي جديد لأميركا»، حيث نقل عن ترامب قوله «أجمل كلمة في القاموس هي التعرفة الجمركية، وهي كلمتي المفضلة. إنها أجمل من الحب. إنها أجمل من أي شيء آخر». طارحاً شعار الله الوطن الحب التعرفة الجمركية، مثيراً حرباً تجارية كونية ضد الجميع تحت شعار أميركا أولاً، ووصف الواردات الأجنبية بأنها تهديد للأمن القومي، ولا يتم تنشيط الاقتصاد الأميركي وسداد ديونها المتراكمة إلا بفرض رسوم جمركية على الواردات إلى أميركا.

هذه السياسات التجارية التي يسعى ترامب إلى تطبيقها، تؤدي إلى فوضى تجارية واضطرابات اقتصادية كبيرة وحروب تجارية تساهم في تباطؤ الاقتصادي العالمي قد يتبعه ركود يؤثر على كافة الدول وأسواق المال وأسعار النفط والسلع سلباً، وقد تتسبب بانهيار الاقتصاد العالمي.

يتوقع المحللون الاقتصاديون تأثير سلبي على قدرة الاقتصاد الأميركي على المنافسة عالمياً، وارتفاع أسعار المنتجات التي يستهلكها المواطن الأميركي، وتطاله أزمة تكلفة معيشة صعبة، حيث تؤدي التعريفات الجمركية إلى ارتفاع نسب التضخم، وتباطؤ في النمو، وإلى رفع أسعار السلع الاستهلاكية المستوردة، ورفع أسعار الوقود للأميركيين، بعد أن اعتقدت العائلات والشركات أن الأسعار بدأت في العودة للسيطرة بعد جائحة كورونا.

ووفقاً لأرقام أميركية أن خللاً كبيراً في الميزان التجاري شكّل لفترة طويلة مصدر قلق في واشنطن الساعية إلى خفض العجز في الميزان التجاري، وتعتمد الولايات المتحدة بشكل كبير على استيراد العديد من المنتجات والسلع والمواد الخام التي تدخل في صناعاتها المحلية، ويتم تصديرها بعد ذلك. وسترتفع فاتورة واردات الولايات المتحدة، وستواجه الشركات المصنعة تكاليف أعلى للحصول على المواد الخام المستوردة، يفضي إلى رفع أسعار المنتجات النهائية الأميركية، وبالتالي فقدان تنافسيتها أمام السلع العالمية وتصبح الصادرات الأميركية أقل جاذبية في الأسواق العالمية بسبب ارتفاع تكلفتها.

تؤثر الحروب التجارية سلباً على مجمل الاقتصاد العالمي، ولاسيما الاقتصاد الأميركي، ويتوقع محللون اقتصاديون أن يتقلص حجم الاقتصاد الأميركي، بعد 4 سنوات من الحرب التجارية، بنسبة 3.5% مما كان عليه قبل هذه الحرب، والصيني بنسبة 2.1%، الأمر الذي يحد من نمو الاقتصاد العالمي بما فيه الاقتصاد البريطاني.

تعد كندا أكبر مورد للنفط الخام إلى الولايات المتحدة، وبلغت قيمة واردات الولايات المتحدة منها 431 مليار دولار تقريبًا منها صادرات طاقة إلى الولايات المتحدة بما يقارب 122.83 مليار دولار، وفرض مثل هذه التعريفات الجمركية على تلك الواردات سيؤدي إلى زيادة تكاليف الطاقة على المستهلك الأميركي بما يقارب 6 إلى 10 مليارات دولار سنويًّا. وبالتالي ستتأثر العديد من القطاعات في الدول الشريكة بشكل كبير، وقد تشهد بعض هذه الدول ركوداً اقتصاديّاً وربما حالات إفلاس في قطاعات حيوية.

وعادة ما تؤدي الحرب التجارية إلى فقدان الوظائف وتسريح آلاف العاملين في الشركات المتضررة وهذه بدورها تؤدي إلى تباطؤ الاقتصاد، فضلا عن تأثيراتها السلبية الكبرى على التجارة والاقتصاد العالمي، ولا يتوقع أن تؤدي حروب ترامب الحالية لنتائج مغايرة وفقا لعدد كبير من الخبراء والمحللين الاقتصاديين عبر العالم.

المستهدف الأول من هذه الحرب هو الصين وسط اتهامات واشنطن لبكين بالإغراق بتصدير سلع بسعر أقل من الأسعار المحلية، وتمثل المنتجات القادمة من الصين 14% من إجمالي الواردات الأميركية، وتعتبر الصين ثاني أكبر الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، بعد المكسيك. بلغ إجمالي عمليات التبادل التجاري بين الصين والولايات المتحدة أكثر من 530 مليار دولار خلال الأشهر الـ11 الأولى من العام 2024، وفقاً لواشنطن. وفي هذه الفترة، بلغت قيمة الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة أكثر من 400 مليار دولار، بحسب أرقام أميركية، وبلغ العجز التجاري مع الصين 270 مليار دولار.

الصين تعهّدت بالرد عبر إجراءات مناسبة لحماية حقوق ومصالح الصين بشكل حازم، ومجددة التأكيد أنه لن يكون هناك فائز في الحرب التجارية.

ولدى الصين نقاط قوة تجعلها قادرة على المنافسة التجارية، واتخاذ إجراءات تتيح لها تصدير الفائض من إنتاجها بأسعار تنافسية ولا سيما في منتجات السيارات الكهربائية وبطاريات الليثيوم. وقد عمدت الصين إلى الاستثمار في تطوير التكنولوجيا، كما في تطوير تكنولوجيا استخراج وفصل المعادن النادرة عن بقية المعادن وتكريرها، تلك ذات الأهمية في الصناعات الحديثة والذكية، حيث هيمنت الصين بنسبة 90% على الإنتاج العالمي مع مطلع القرن الـ21، وباتت الصين تمتلك أكبر مصانع معالجة المعادن الأرضية النادرة في العالم، وتحتكر قرابة نصف الاحتياطي العالمي للمعادن الأرضية النادرة، مقابل 12% فقط في الولايات المتحدة التي تحاول استغلال موارد أوكرانيا من الليثيوم والتيتانيوم والغرافيت، لكن الوكالة الجيولوجية الوطنية أكدت وجود الكمية الأكبر من المعادن النادرة في شرق البلاد الخاضع للسيطرة الروسية والمتنازع عليه.

خلال ولاية ترامب الرئاسية الأولى، شن حربه التجارية الأولى مع العالم عام 2018، وكانت الصين الهدف الرئيسي لهذه الحرب، في ذلك الوقت، فرض رسوماً جمركية على واردات صينية بقيمة مئات المليارات من الدولارات، ردّت بكين بفرض ضرائب على الواردات من الولايات المتحدة، الأمر الذي أضرّ خصوصاً بالزراعة الأميركية.

وبعد مفاوضات طويلة وشاقة، توصّل البلدان إلى اتفاق تعهدت الصين بموجبه باستيراد منتجات أميركية بقيمة 200 مليار دولار، غير إنّ «الصين لم تصل إلا إلى 58% من الواردات من الولايات المتحدة المنصوص عليها في الاتفاق» بسبب جائحة كورونا حسب ما قيل.

من دلالات هذا الاتفاق خلال ولايته الأولى، أن ترامب يهدف من خلال سياساته التجارية إلى الضغط على الشركاء التجاريين للوصول إلى اتفاقيات مرضية له، إذ استخدم هذا النوع من الضغط لتحقيق فوائد إضافية بعيدة عن المجال الاقتصادي. وخلال حملته الانتخابية، وجّه ترامب، تهديدات للعديد من الدول، سواء كانت حليفة للولايات المتحدة أو منافسة لها، فهو لا ينظر إلا لتحقيق مصالحه الشخصية أولاً ثم مصالح الولايات المتحدة ثانياً.

والفوضى التي قد يتسبب فيها ترامب لن تقتصر المجال التجاري، ستشمل المجال السياسي، وستؤثر على الداخل الأميركي، والاقتصاد العالمي على حد سواء. وقد قال المتحدث باسم الحكومة الألمانية شتيفن هيبشترايت «إن تكاليف الحرب التجارية لا يتحملها طرف واحد، بل قد تصبح تكلفتها باهظة على الجانبين».

وبعد انتخاب جو بايدن عام 2020، لم يلغِ الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب، بل زادت إدارة بايدن بعض التعريفات الجمركية رداً على ما وصفته بـ«الفائض الصناعي» في الصين، في محاولة لمواجهة تأثير الإعانات الحكومية المقدّمة للمصنّعين الصينيين، والتي من شأنها أن تؤدي إلى إغراق الأسواق بالسلع الرخيصة.

كما ضاعفت الرسوم على المركبات الكهربائية 4 مرات، لتصل إلى 100%، في حين رفعت التعريفات الجمركية على أشباه الموصلات من 25 إلى 50%. واستُهدفت أيضا البطاريات والمعادن الأساسية والمعدّات الطبية بهذا الإجراء.

إلى أين ستتطور الحرب التجارية؟.

مادام الجميع خاسراً في هذه الحرب، فالأطراف المتصارعة من بلدان الاقتصاديات الكبرى ستسعى إلى الحد من هذه الحرب واللجوء إلى التفاوض والوصول إلى حل يرضي الولايات المتحدة والطرف الآخر إن كان الصين او الاتحاد الأوروبي الذي سارع إلى الحد من التصعيد والتصعيد المضاد وحل الخلاف عن طريق التفاوض، وقد أبدت الصين استعدادها للتفاوض كما جرى الأمر في العام 2019. من جهتها تدرس الولايات المتحدة طلبات للتفاوض مع العديد من البلدان، الصين أبرز المنافسين ترغب بشدة عقد صفقة.

وإذا كان الاتحاد الأوروبي قد اجتمع في لوكسمبرغ، وقرر المواجهة مجتمعين أو المفاوضات التي ترضي الطرفين الأميركي والأوروبي، كذلك الأمر بالنسبة إلى مجموعة «آسيان» التي تضم عشر دول من أكثر الدول تضرراً من هذه الرسوم. فقد عُقد في العاصمة الماليزية كوالالمبور اجتماع بين ممثل عن وزارة الخزانة الأميركية وكبار المسؤولين في دول جنوب شرق آسيا، وذلك لمناقشة الآثار الاقتصادية للرسوم الجمركية الواسعة التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وقد دعا رئيس وزراء ماليزيا أنور إبراهيم دول آسيان إلى «الوقوف صفاً واحداً» للتعامل مع الرسوم الجمركية الأميركية.

 

 

نداء الوطن