العقل الجدلي والإعلام الجديد  

 

دكتور محمد عمارة تقي الدين

 

" من يسيطر على وسائل الإعلام يسيطر على العقول"، هكذا يصف الكاتب الأمريكي هربرت شيللر دور وسائل الإعلام في تشكيل الوعي الإنساني وفقاً لما تريده وتماهياً مع الأيديولوجية الفكرية أوالدينية أو السياسية للقائمين عليها، وهو بالضرورة وعي زائف جرى تخليقه لصالح هؤلاء، فكثير من الوسائل الإعلامية مُتَّهمة بارتكاب جريمة " اغتيال الوعي الإنساني" عبر تضليله وإبعاده عن قضاياه وهمومه المركزية.

ولكن: ما الحل وما المخرج ؟ كيف ننقذ الجمهور من تلك الجريمة التي تُرتكب بحقه بشكل يومي؟

أعتقد أنه ليس في إجبار الوسيلة الإعلامية على تقديم رسالة إعلامية نقيّة وصادقة فهذا شبه مستحيل، إذ مهما جرت المحاولة ستبقي بقايا التوجيه والأدلجة عالقة بمادتها.

فالمشكلة فيك أنت أيها المتلقي، وفي مدى قدرة عقلك على قراءة ما وراء الرسالة الإعلامية المباشرة من رسائل أخرى مُضمرة في تضاعيف الخطاب الإعلامي وثناياه، لذا عليك عبر استدعاء ملكات عقلك الجدلي التفريق بين الجانب الحقيقي المعرفي والجانب الأيديولوجي في الرسالة الإعلامية، إعادة تنقية المعلومة وفصل ما علق بها من شوائب أيديولوجية ومن ثم ردها إلى مادتها الأولى.

 ولكي نكتسب هذه المناعة العقلية يتوجب علينا تنمية حاسة التفكير النقدي لدينا، فمصيبتنا في عقلنا البسيط الذي يقبل بتلقي " الرصاصة السحرية " الموجهة لعقله وقلبه فيتبنى الفكرة كما هي وكما طرحتها الوسيلة الإعلامية دون قليل من تمحيص أو تفكير.

 ومن ثم فالمسافة التي يتحتم قطعها من العقل البسيط إلى العقل الجدلي النقدي تلك هي معركة الوعي الحقيقي.

ولتكن البداية بمعرفة مُمولي وسائل الإعلام والدوافع الأيديولوجية التي تحركهم، وإدراك استراتيجيات وآليات التضليل الإعلامي التي يتقنها القائمون على هذه الوسائل الإعلامية، وهو التضليل الذي يُعرِّفه الباحث الفرنسي فرانسوا جيريه باعتباره " فن التستّر وراء قناع "، إذ عبره يجري تخليق رأي عام زائف مؤيد للمتحكمين بتلك الوسائل الإعلامية، وفق إستراتيجية مُتعمدة ومُتقنة لتغييب العقل ودفنه تحت ركام هائل من الأكاذيب، في مقابل استدعاء العاطفة ومن ثم مخاطبة اللاوعي.

لقد بدأ هذا التضليل الإعلامي يتعاظم تأثيره بشكل مخيف مع الانتشار الواسع الذي حققته وسائل الإعلام في العقود الأخيرة، فها هو الزعيم البولندي ليش فاليسا(Lech Walesa) يؤكد ذلك بمقولته الشهيرة عندما سُئِل عن أسباب انهيار الأنظمة الشيوعية في دول شرق أوروبا والاتحاد السوفيتي فقال كلمته الموجزة : " إن كل ما حدث بدأ من التلفزيون" .

كان ذلك منذ عقود، فما بالنا بما حدث من تطور إعلامي في عصرنا الراهن، فقد أدى التقدم في تكنولوجيا وسائل الاتصال إلى ظهور أشكال أكثر تعقيداً من التضليل الإعلامي بحيث يصعب كشف آلية عملها، يرى ولتر ليبمان (Walter Lippmann) مؤلف كتاب الرأي العام " أن الإعلام أصبح يحدد بما نفكر وحول ماذا نقلق، فهو الذي يهيمن على خلق الصور في أذهاننا، وأن رد فعل الجمهور يكون تجاه تلك الصور وليس تجاه الأحداث الفعلية"  فنكون في حقيقة الأمر أمام واقع زائف صنعته وسائل الإعلام ولا يمت بصلة للواقع الحقيقي.

وفي ذات السياق يطرح المفكر الفرنسي بير بورديو (Pierre Bourdieuفي كتابه " التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول" رؤيته المناهضة للتلفزيون باعتباره الأداة الأكثر توظيفاً في تضليل البشر والتلاعب بعقولهم ومن ثم تزييف الوعي الجمعي وتغييبه، بل وصف مثقفي هذا العصر بأنهم " كلاب الحراسة الجدد لوسائل الإعلام"،  إذ يبيعون مواقفهم عبر وسائل الإعلام سواء لأجل المال أو الشهرة، مؤكداً أن التلفزيون أصبح يلعب دوراً خطيراً في تكريس الأوضاع القائمة، وتشكيل الوعي العام وفقاً لرؤية من يتحكم بهذه الوسائل ويمولها، وذلك طبقًا للمثل الإنجليزي القائل " من يدفع للعازف هو من يختـار اللـحن" .

فالتلفزيون ـــ وكما يرى بورديو  ـــــ  من شأنه أن يقود إلى تدمير الوعي الجمعي للأمم حينما يعرض فكراً زائفًا، أو أن يتلاعب بأولويات مشاهديه عبر " إستراتيجية المنع بواسطة العرض"، إذ يقدم للناس بشكل متكرر رسائل إعلامية هامشية ليستهلك أوقاتهم في قضايا ثانوية، وفي الوقت نفسه يخفي عنهم قضاياهم وهمومهم المركزية، مؤكداً أن من يملك المعلومات وحق بثهاهو من يستطيع السيطرة على أي مجتمع ومن ثم قيادة هذا المجتمع؛ إذ بمقدوره صناعة رأى عام متماشياً مع توجهاته الخاصة وقناعاته الذاتية، وهنا تكمن الخطورة .

هكذا هو الحال في الإعلام الموجه؛ وهو أمر جد خطير في ظل حقيقة مفادها أنه ليس هناك إعلام لوجه الله أو لأجل الحقيقة والموضوعية مهما ادعى القائمون عليه ذلك، فأي إعلام هو إعلام موجه وحامل لأيديولوجية ما بتجلياتها الفكرية أو الدينية أو السياسية أو القومية، تلك حقيقة يجب ألا تغيب عن أذهاننا أبداً.

ولا ننكر إيجابيات تلك الوسائل الإعلامية في ثوبها الجديد إذا ما حسُن توظيفها وكانت تعبيراً صادقاً عن تطلعات وآمال وقناعات الجماهير فارتقت بالذوق العام وعبرت عن الهم الإنساني وساعدت على تحقيق التعايش والتفاعل البناء بين البشر وقبول الآخر وتمركزت حول قيم الحق والخير والجمال، إعلاماً من شأنه تحقيق المعادلة الصعبة في الجمع بين متعة العرض ورقيه وبين جدية المضمون وجوهريته، ولكن الواقع يشير إلى أن الغالبية العظمى من وسائل الإعلام تسير في الاتجاه الخاطئ مُنشِئة وعي زائف ومؤدية لاستقطاب حاد سواء على أسس دينية أو علمانية أو عرقية.  

 والسؤال الذي يُطِل برأسه الآن: ما العمل إزاء تلك الهجمة الشرسة التي تشنها وسائل الإعلام علينا؟ وما أدت إليه من تغيرات سلبية هائلة لعل أبرزها تزييف الوعي الجمعي وسيادة النموذج المادي النفعي داخلنا، فهل بالإمكان إنقاذ بقايا الإنسانية النائمة في أعماق كل منا؟ 

نعتقد أن ذلك بالإمكان شريطة العمل في مسارين متوازيين:

المسار الأول: وهو تنمية الحاسة النقدية الجدلية لدى الجمهور كي يمحص ويتساءل حول كل ما تقدمه وسائل الإعلام له من رسائل وما تخفيه من رسائل مضمرة دون أن يقبلها على علاتها.

المسار الثاني: وهو تحقيق الاستقلالية لوسائل الإعلام لتتحرر من أي فكر أو توجه أيديولوجي، وهو أمر بالغ الصعوبة في ظل طبيعة أغلب الأنظمة الحالية بل والنظام الدولي القائم على منطق القوة والنفعية المفرطة في لا إنسانيتها.

فالتعويل بالأساس على المسار الأول الذي من شأنه تقوية ملكة الفرز بين غث الإعلام وسمينه لدى المتلقي، عبر تسليح المشاهد بما يمكِّنه من مواجهة تلك الترسانة الإعلامية، ونعتقد أن هذا السلاح هو في إيقاظ عقله النقدي وتنمية القدرة التحليلية التفكيكية وإحياء فضيلة التساؤل الجدلي المركب لديه ليتسنى له كشف عمليات التضليل الإعلامي التي تحيكها وسائل الإعلام ضده وما تنطلي عليها من مغالطات فكرية ومنطقية.

وللحديث بقية في مقال قادم بإذن الله.

 

نداء الوطن