طاقة الشرق :
اعترفت أميركا والدول الصناعية الكبرى، بأنها إرتكبت خطأ الاهتمام المفرط بأمن الطاقة الأحفورية والنمو الاقتصادي على حساب أمن المناخ. وإيلاء النفط والغاز أهمية كبيرة برسم خريطة الجغرافية السياسية. ويبدو أنها ترتكب حالياً خطأ أكبر بالاهتمام المفرط بأمن المناخ على حساب أمن الطاقة. والمبالغة في تمجيد الطاقة النظيفة و«شيطنة» الوقود الأحفوري. فهل تبادر إلى الاعتراف بالخطأ وتصحيحه قبل أن يتحول إلى خطيئة. ما يؤدي إلى اهتزازعنيف بالخريطة الجيوسياسية العالمية، يطيح بأمن الطاقة وأمن المناخ معاً ؟
تجدر الإشارة بداية إلى أن الوقود الأحفوري شكل خلال القرن الماضي، أحد المكونات الرئيسية للجغرافية السياسية في العالم. كما شكلت السيطرة عليه أحد عناصر نفوذ الدول الكبرى. ويختصر رجل الدولة البريطاني اللورد كرزون ذلك بقوله الشهير «الحلفاء أبحروا إلى النصر فوق موجة النفط». وينطبق ذلك على أميركا التي « أبحرت» إلى التفوق والهيمنة فوق موجة النفط أيضاً بعد الحرب العالمية الثانية. خاصة بعد إحكام سيطرتها على منابعه وتقنيات استكشافه واستخراجه وتصنيعه، وضمان طرق إمداده وفرض الدولار لتسعيره.
واندفعت أميركا منذ مطلع التسعينات، مستفيدة من إنهيار الاتحاد السوفييتي وتحكمها بأمن الطاقة، إلى فرض سياسات العولمة والخصخصة وتحرير التجارة والاستثمار. فتم نقل الصناعات الملوثة وذات الاستخدام الكثيف للعمالة إلى الصين والهند وغيرها من الدول النامية. الأمر الذي أدى إلى ارتفاع استهلاك هذه الدول من النفط والغاز بمعدلات قياسية. وأدى بالتالي إلى زيادة ارتهانها لأميركا باعتبارها الحارس الأمين لأمن الطاقة.
انتهاء عصر العولمة وأمن الطاقة
في الوقت الذي كانت فيه أميركا تنام على حرير هيمنتها كقطب وحيد في العالم والتمتع بنعم العولمة و «حراسة» أمن الطاقة. كانت الصين تعبد “طرق حريرها” وتراكم عناصر تفوقها. وباتت أكثر قدرة على التمتع بتلك النعم. ولتكتشف أميركا ان تلك النعمة تحولت إلى نقمة وعنصر ضعف. فهي من يتحمل الأعباء السياسية والعسكرية والاقتصادية لحفظ استقرار الدول المنتجة وإدارة الصراعات الإقليمية وحماية طرق الإمداد الخ. لتكون الصين هي المستفيد الأول بدون تحمل أي أعباء سياسية وعسكرية. ولتكون الدول المنتجة المستفيد الثاني من خلال ترسيخ قدرتها على التحكم بالأسعار والمعروض دون مراعاة لمصالح ورغبات أميركا.
وتجدر هنا ملاحظة عاملين رئيسيين يجعلان التخلي عن نظام الطاقة الأحفوري، والتنصل من الالتزام بأمن الطاقة، استراتيجية ثابتة بالنسبة لأميركا وبعض الدول الغربية. مع إمكانية التراجع التكتيكي في بعض الحالات لمواجهة تطورات طارئة مثل تداعيات حرب أوكرانيا. وهما:
أولاً: وصول إنتاج النفط والغاز في الدول الغربية إلى ذروته. وبدأ يتراجع بسرعة. وترافق ذلك مع عدم اكتشاف أي احتياطيات جديدة. أما أميركا فقد نجحت في نيل «الاستقلال النفطي» بفضل الاستثمار المكثف في النفط والغاز الصخري. ولكنه استقلال منقوص بسبب تكاليف الإنتاج الباهظة والأضرار البيئية المرتفعة لهذا النوع من الوقود. ما يجعله متعارضاً مع سياسات التغير المناخي. ولا يمكن بالتالي المراهنة على استمرار الإنتاج لمدة طويلة.
ثانياً: تعاظم المخاطر الجيوسياسية الناجمة عن تركيز الإنتاج العالمي في عدد محدود من الدول التي تمتلك مزايا تنافسية من حيث الطاقة الإنتاجية والتكلفة. وهي بشكل أساسي دول الخليج العربي. وتتوقع وكالة الطاقة الدولية أن ترتفع حصة دول أوبك من إمدادات النفط العالمية من حوالي الثلث حالياً إلى النصف في العام 2050. في حين تتوقع شركة BP أن ترتفع إلى أكثر من الثلثين، وهي حصة كبيرة جداً من كعكة صغيرة.
ولذلك بدأت رحلة التخلي عن أمن الطاقة لصالح أمن المناخ والطاقة النظيفة. وترافق ذلك بالطبع مع التخلي عن سياسات العولمة لصالح سياسات “الأمركة بدل العولمة” و”أميركا أولا” التي وضعها باراك أوباما، وباشر تنفيذها بفظاظة دونالد ترامب، ليستكملها بنعومة وحزم جو بايدن. فواصل بل وسع اعتماد سياسات حمائية وحروب تجارية ضد الخصوم والأصدقاء على السواء.
التغير المناخي وضرب الوقود الأحفوري
انتهجت أميركا والدول الغربية في سياق التراجع عن سياسة أمن الطاقة لصالح أمن المناخ، سياسات ممنهجة لضرب الوقود الأحفوري. واستندت في ذلك إلى «كلمة حق» هي مسالة التغير المناخي وتطوير الطاقة النظيفة. ولكن «أريد بها باطل» وهو ضرب نظام الطاقة العالمي القائم على الوقود الأحفوري. ويمكن رصد بعض المحطات للدلالة على عمق وخطورة هذا التراجع وأهمها:
تطوير إطار قانوني واتفاقيات دولية لفرض الالتزام بالمعايير المناخية والانتقال إلى الطاقة النظيفة. ووصل الأمر إلى نقل الملف إلى مجلس الأمن ومحاولة استصدار قرار يلزم الدول بالانصياع لهذه المعايير. وكذلك محاولة نقله إلى المحكمة الجنائية الدولية لتصنيف التغير المناخي كجريمة خامسة ضد الإنسانية. وكان التطور الأخير في هذا السياق خلال شهر أبريل 2023، بطلب الأمم المتحدة رأي محكمة العدل الدولية في قضية التغير المناخي.
إصدار تشريعات وقرارات في الدول الصناعية لتقييد، واحياناً لمنع، مشاريع استكشاف وإنتاج النفط والغاز. وترافق ذلك مع إجراءات صارمة لتقييد ومنع تمويل هذه المشاريع خاصة في الدول النامية. وهناك تخوف جدي من التوجه لربط المساعدات والقروض المقدمة من الحكومات أو من مؤسسات التمويل الدولية، باعتماد المعايير المناخية والبيئية. أي كما حدث تماماً في فرض تطبيق العولمة. ودون استبعاد تطوير وصفة صندوق النقد الدولي الجاهزة لكل زمان ومكان لتتوافق مع المعايير المناخية بدل معايير العولمة.
أدت تلك السياسات إلى تخوف وإحجام شركات النفط العالمية عن الاستثمار في قطاع النفط. حيث انخفضت قيمة الاستثمارات في العام 2020 مثلاً بنسبة 50 في المئة تقريباً عن معدلاتها التاريخية، لتصل إلى حوالي 300 مليار دولار. قبل أن ترتفع قليلاً العام الماضي، تحت ضغط النقص الكبير في الطاقات الإنتاجية. وكانت السعودية والإمارات وبعض دول أوبك هي الوحيدة التي ضخت استثمارات مهمة لتطوير طاقاتها الانتاجية.
انهيار أمن الطاقة
أدت هذه التطورات مجتمعة إلى انهيار أمن الطاقة. بعد أن تداعت الركائز التي استند إليها تاريخياً. وأبرز هذه الركائز: إمدادات وفيرة، وأسعار معقولة واحتياطيات قابلة للاستخدام عند أي طارئ. وتتكون هذه الاحتياطيات كما هو معروف من نوعين: الأول هو الطاقة الإنتاجية الاحتياطية في الدول المنتجة. والثاني هو المخزونات الاستراتيجية لدى الدول الأعضاء في وكالة الطاقة الدولية، التي بوشر العمل بها بعد حظر النفط العربي في سبعينات القرن الماضي.
ويمكن تخليص الوضع الحالي بالقول: لا إمدادات كافية، ولا أسعار معقولة، ولا احتياطيات تذكر لدى الدول المنتجة. أما المخزونات الاستراتيجية فحولتها أميركا إلى سلاح في حرب تكسير الأسعار. حيث تلجأ لسحب كميات كبيرة عند ارتفاع السعر، لتعيد بنائه عند انخفاضه.
اختلال جيوساسي والسعودية الدليل
الاهم ان هذه التطورات، أدت أيضاً إلى إختلال كبير في الخريطة الجيوسياسية والتحالفات الدولية. وللدلالة على عمق هذا الاختلال نشير إلى أوضح تجلياته. وهو علاقة السعودية بأميركا. فيلاحظ تنصل أميركا بشكل ممنهج ومتصاعد من التزامها بمعادلة “النفط والأمن” التي أبرمها الرئيس فرانكلين روزفلت والملك عبد العزيز آل سعود عام 1945. وهي المعادلة التي شكلت ركيزة اساسية للجغرافية السياسية في المنطقة وللسياسة الخارجية الأميركية فيها. وتجلى هذا التنصل بأوضح صوره بالموقف الأميركي غير المبالي، من الاعتداءات المتكررة بالصورايخ والمسيرات على السعودية والإمارات. وكان أخطرها وأكثرها دلالة، الاعتداء على منشآت شركة أرامكو. باعتباره اعتداء على “الأمن” وعلى “النفط”.
ولذلك بادرت الرياض إلى ترسيخ مقاربة جديدة لعلاقتها بأميركا وللقضايا السياسية والنفطية انطلاقاً من مصالحها الوطنية فقط. وذلك ما يفسر عدم الاهتمام بتلبية مناشدات ورغبات واشنطن الضمنية أو العلنية بزيادة انتاج النفط او عدم تخفيضه. حتى لو جاء الطلب من قبل الرئيس الأميركي نفسه. وينطبق ذلك على تعميق علاقتها مع الصين باعتبارها أكبر شريك تجاري وأكبر مستورد للنفط السعودي. كما ينطبق على علاقتها مع روسيا كشريك رئيسي في إدارة أسواق النفط. ولتبقى المحطة الأكثر دلالة هي الاتفاق الموقع مع إيران برعاية صينية. وكأنه رسالة لأميركا مفادها “إذا كنتم تريدون مقاتلة إيران، فإذهبوا وقاتلوها بأنفسكم”.
الجزء الثاني:
استقراء الخيارات المتاحة ومحاولة الإجابة على التساؤلات التالية:
هل يمكن فعلاً التخلي عن الوقود الأحفوري، أم هي مجرد آمال أقرب إلى الأوهام، كما دلت صدمة حرب أوكرانيا؟
ما هي ملامح نظام الطاقة القائم على الطاقة النظيفة. وهل تكون الصين هي الأقدر على التحكم بهذا النظام بفضل سيطرتها على المواد الخام والمكونات اللازمة للتصنيع. فتكون أميركا الهاربة من تحكم الدول النفطية، كالمستجير من الرمضاء بالنار؟
ما هي انعكاسات الانتقال من أمن الطاقة إلى أمن المناخ على الجغرافية السياسية. وهل يؤدي ذلك إلى نوع من «اللامركزية الطاقوية»، وبالتالي تصاعد قوة ونفوذ القوى الإقليمية على حساب القوتين العظميين (الصين وأميركا). أم يتم التوافق بينهما على دمج «الأمنين» وتقاسم العالم.