قوة الصمت بين الاستمتاع والإبداع

نداء الوطن - كتب بكر ابو بكر
بكر أبوبكر

تعرفتُ على قيمة الصمت من عدد من الحالات التي عشتها في حياتي العملية ومن قراءاتي المتنوعة، فلم يكن للخطاب أو للحوار أو للحديث المؤثر وحدَهُ أن أعطى أثره، بل والصمت أيضًا حين يتخذ الدماغ وضعًا مختلفًا يُراقب فيه، ويستمع جيدًا، أو يركّز، ويتأمل. أويدير عيني رأسه بين الوجوه ليتفقدها، أو حين يرسل إشارات محبة أو إشارات توتر او تخويف أو تحذير، أو حين تقدح عينيه الشرر.

إذ أن للصمت كل المعاني التي يفرضها الشخص في الموقف المقصود.

وفي الصمت تجدُ الكثيرَ حين تكون العيون بديلًا للخطاب الشفوي، أو حين تكون لغة الجسد متآزرة مع صمت اللسان فتقول ما لا يستطيعه الكلام.

في العزلة عن الناس إيثارٌ للصمت، وفي الاختلاء مع الطبيعة تحبيذٌ لصوت حفيف الشجر والطيور الصداحة على صوت البشر، بل ويكون لصوت الحيوانات قوة التأثير في الصدر الوارم بأوجاعه، والنفس المخلصة ولكنها المثقلة بالهموم المتراكمة.

الصمتُ فضيلةٌ أيضًا حين يكون الكلام في اتجاهاته المختلفة رفضًا أو قبولًا يؤدي الى مهلكة أويُفسر خطأ.

وفي الصمت من ناحية أخرى عبادة، لأنه أساس الصلوات في كافة الأديان حين يربط المؤمن ذاته بحبل وثيق مع الخالق (الخشوع) فيعزل ذاته عن المحيط وعن كافة المشتّتات في داخل نفسه ومن المحيط ليُقبل على الطاعة بروحية المحب الذي يستسلم للدفقات الروحانية من جهة، وللإلهام القادم مع تجول الذهن بين شتى الصور ومختلف التنقلات التني تعيشها.

في الصمت مقدرة على التخلص من الضغوط اليومية بإطلاق العنان للمخيّلة الصورية ما هو مجلَبة للراحة، وشكل من أشكال التأمل (في التأمل تجوال بين الصور المريحة، وفي التفكّر اصطياد للأفكار من دفقاتها النابضة).

في الصمت إطلاقٌ لعنان الأفكار المتدفقة سواء المتوافقة منها أو المتصارعة لتقول ما لم تستطع قوله بلسانك، في ظل الصخب والضجيج وسيل المشتتات الدافق بلا هوادة على رأسك المثقل بشتى أشكال الرياح العاتية وقصف الرعود.

إن التفكّر والتدبر والتأمل مدخلٌ واسع للراحة النفسية ثم للإبداع.

خطأ وجريمة

اقترفت خطأ، وأنا بالسنة الأولى الجامعية، وعلِمَهُ والدي من غيري، فلم يراجعني ورغم أنه كان خطأ بسيطًا إلا أن انعكاسه على العائلة وقع في قلب والدي موقعًا صعبًا جعله يمتنع عن الكلام معي لفترة طويلة عرفتُ حينها معنى التأنيب من مدلولات الصمت.

دفعني هذا الموقف الصامت لوالدي للتفكير بالبدائل واجتراح الحلول فتعلمت الصمت أيضًا وإن بشكل تحفيزي وليس تقريعي.

ولولا مبادرتي بالاعتذار من الوالد -لما علِمه ولم يقُله- مع تبيان الحقيقة، لما كنت أتحدث في هذا الموضوع الآن.

طرحتُ فكرة المقال على العلن في منشور بالجملة التالية لي: "الكلام حيث يجب فضيلة وكذلك الصمت. لاسيما ونحن نعيش اليوم عالم الصخب من كل مكان. في الصمت عبادة وفي الصمت حُسن استماع، وتركيز، وفي الصمت سلامٌ مع النفس، وفي الصمت تفكّر قبل الكلام، وفيه تأمّل، وفي الصمت التقاط للأفكار وترحال وتجوال بين الدفقات، وفي الصمت تفقد للمشاعر وفيه خشوع كما أن فيه حسن اختيار للتصرف. وفي الصمت محبة حين تتكلم العيون"

فكان أبرز التعليقات ترفض الصمت (بمعنى السكوت عن الحق لديهم) بفرضية تعاملهم مع مقام التصدي وشجاعة الحق ما أوافق الأخوة والاخوات به بالطبع ، وما كنت قد أشرتُ عليه ببداية المنشوربقولي "الكلام حيث يجب فضيلة وكذلك الصمت".

ولما كان مقامنا هنا الحديث عن فضيلة الصمت مقابل الثرثرة والتشتيت والإلهاءات السمعية والبصرية والمعلوماتية الكثيفية من الشاشات البراقة عوضًا عن الإلهاء الداخلي (الحوار الداخلي) فإن القصد بالصمت هنا ولنقل الإيجابي يكون فاعلًا.

ومما لا شك فيه أن الصمت (أو السكوت) حيث وجب النطق قد يعد إنسحابًا أوأحيانًا يعدّ جريمة في نطاق القول المأثور الذي جاء في الرسالة القشيرية للإمام أبي القاسم القشيري أن "الساكت عن الحق شيطان اخرس".

وأنظر في هذا المقام قول الشاعر (اختلفت بالقائل الآراء)

عَجِبتُ بِإِزراءِ العَيِيِّ[1] بِنَفسِهِ*وَصَمتِ الَّذي قَد كانَ بِالقَولِ أَعلَما

وَفي الصَمتِ سَترٌ لِلعَيِيِّ وَإِنَّما*صَحيفَةُ لُبِّ المَرءِ أَن يَتَكَلَّما.

وأنظر قول الخليل بن أحمد: والخطاب البليغ عند جواب ال ... قول تزهى بمثله في النّديّ[2].

ولناء لقاء صامت آخر.

حاشية

1العييّ هو هنا العاجز عن بيان مراده، ومنه العيي في خطابه وحديثه وكلامه.[1]

2 الندى صوت الإنسان الحسن البعيد؛ صوت المنادي المرتفع.

#بكر_أبوبكر

 


[1] العييّ هو هنا العاجز عن بيان مراده، ومنه العيي في خطابه وحديثه وكلامه.

[2] الندى صوت الإنسان الحسن البعيد ؛ صوت المنادي المرتفع.

 

 

نداء الوطن