بقلم: طه خالد منصور
أيام قليلة مرت على المظاهرات التي شهدتها شوارع غزة تحت شعار بدنا نعيش والتي تعالت فيها الأصوات المطالبة بتوفير الخدمات الأساسية والاحتجاج على الظروف المعيشية الصعبة، وتوفير مناصب عمل للخرجين والبطالين الذين تجاوزت حيث تخطت نسبة البطالة حاجز 65%، في ظل زيادة الفقر واعتماد نسبة كبيرة على المُساعدات الغذائية، والمعونات المادية، من المؤسسات المحلية والعربية والدولية، ما ساهم في حرمان العُمال من رفاهية الاختيار، وجبرهم على القبول بأعمال لا تلتزم بتوفير أدنى مقومات حماية العَمالة، والسلامة المهنية.
ضغط الشارع الذي وصف بالنادر منذ حكم حماس للقطاع سنة 2007، دفعها لاتخاذ أحد القرارات التي رفضتها سابقا بحجج عدم التطبيع مع المحتل، لكنها اليوم تنازلت عن هذا المبدأ تحت ضرورات فرضها الواقع المرير الذي يعيشه سكان القطاع .
قرار وزارة التشغيل بغزة القاضي بمنح تراخيص لشركات عدة في غزة للقيام بدور الوسيط مع أخرى في إسرائيل والتواصل والتعاون معها لإصدار تصاريح عمل مباشرة من المشغلين هناك، والتي تم اعتبار هذه الخطوة ضماناً لحقوق العمال فتح الباب أمام جدل جديد من جدوى هذه الخطوة التي أتت بشكل مفاجئ ودون أي مقدمات، خاصة أنها رفضت خلال سبتمبر (أيلول) الماضي مقترحاً إسرائيلياً يسمى "تصريح المشغل"، ويقضي بالسماح لعمال القطاع الراغبين بالعمل في محيط تل أبيب الحصول على موافقة مباشرة من مشغل إسرائيلي، وفيما اعتبرت هذه الآلية ابتزازاً أمنياً، لكن سرعان ما تراجعت الوزارة عن ذلك وتبنت القرار.
القرار تاريخي، فهذه هي أول مرة منذ تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994 التي تعلن فيها جهة حكومية فلسطينية عن تأسيس شركات تجارية خاصة تتعلق بتصاريح العمل في الداخل المحتل، وهو القرار أو الخطوة التي طرحت العديد من علامات الاستفهام حول ما تنوي حكومة حماس الوصول إليه، والتي في المجمل تدل على الرغبة في التخلص من مشكلة البطالة داخل القطاع بأي ثمن كان، حتى وإن كان ذلك الثمن التنازل عن مبادئها التي لطالما تغنت بها خلال خطاباتها الشعبية، وها هي اليوم تضع يدها بيد مشغلين صهاينة فقط من أجل توفير مناصب شغل عبر شركات مستحدثة، سيكون لها نصيب في الأموال عبر نسبة معينة تأخذ من أجرة العامل، وهنا لا بد من الإشارة إلى هذه النقطة التي تعني أن هذه الشركات تعمل بنظام السمسرة المقننة، أي أن ما كان يحدث سابقا عبر سماسرة تصاريح العمل الذين كانوا يوفرون تصريح عمل في الداخل المحتل مقابل مبلغ مادي أصبح ذلك يحدث لكن بشكل رسمي وفوق الطاولة.
ما يحدث اليوم في قطاع غزة يشبه كثيرا المثل الذي يقول إن الدجاجة أصبحت نبيض ذهبا، فبعد بلبلة أثارتها الظروف المعيشية المزية التي أرهقت سكان القطاع، خرجت حكومة القطاع بحل مثالي يغنيها عن صرف الأموال من خلال فتح مصانع أو شركات للتوظيف، متجاوزة بذلك العناء ومستفيدة هي الأخرى من الأمر، فتوفير تصاريح عمل لعمال غزة لا يعني التخلص من مشكلة البطالة فحسب، بل هو رضوخ لواقع الحصار ومحاولة لتفادي جولات المواجهة مع الاحتلال، فهي تعلم أن سكان القطاع لن يكون بمقدورهم تحمل جولة أخرى من جولات القصف والتصعيد والتي عادة ما يدفع ثمنها المواطن البسيط، لتزيد عن همومهم هما أخر، فهي تعلم أن شعبيتها داخل القطاع تراجعت عما كانت عليه، لعدة أسباب لعل أهمها هو فشلها في تسيير شؤون القطاع رغم تحميلها المتكرر للمسؤولية للاحتلال والحصار المفروض، ورغم أننا لا يمكن أن ننكر أن للاحتلال دوراً كبيراً في ما يعيشه سكان غزة، لكن ذلك لا يعني إنكار حقيقة أن حماس هي من ساهمت في إغلاق العديد من المصانع المحلية وأعطت تراخيص لاستيراد مئات المواد الغذائية والسلع من تركيا، على الرغم من أنها كانت تصنع داخل القطاع، حيث أجبر العديد من رجال الأعمال على غلق مصانعهم وتسريح عمالهم ما تسبب في أزمة كبيرة أدت إلى زيادة نسبة البطالة، ولجوء أغلب العمال للعمل في الداخل المحتل رغم المخاطر التي تعترض طريقهم.
وبين الاستغلال والحاجة وجد العُمال الفلسطينيين في قِطاع غزة أنفسهم مجبرين على العمل في الداخل المحتل حتى ولو كلفهم ذلك دفع شطر من راتبهم مقابل الحصول على منصب عمل، كيف لا وهم من يواجهون مجموعة من الأزمات المُركبة، التي لم تسمح لهم بالعمل داخل القطاع، بالنظر لشح مناصب العمل والتي حتى وإن وجدت فهي لا توفر لهم على الصعيد المادي متطلبات حياتهم الأساسية، كما لا توفر لهم على الصعيد الشخصي والمهني، أيا من عوامل السلامة المهنية والصحية،