عبد الباري عطوان
تشنّ اللوبيّات اليهوديّة الصهيونيّة وحُلفاؤها في أوروبا حملةً شَرِسَةً على الرئيس الفِلسطيني محمود عبّاس هذه الأيّام، وتتّهمه بمُعاداة السّاميّة وإنكار المحرقة، وتَسحَبُ مِنه بعض الأوسمة التي جرى منحها له، وتُطالبه بالاعتِذار وسحب تصريحاته في هذا الخُصوص.
الرئيس عبّاس لم يُخطِئ في رأينا والكثيرين من قبلنا حتّى يعتذر، وما قاله حول اليهود، وأسباب “حرق” أدولف هتلر لهُم، موجودٌ في كُتبٍ لكِبار المُؤرّخين الغربيين أصدروها عندما كانت حُريّة البحث مضمونة، ولهذا نُطالبه بعدم الاعتِذار، وسحب هذه التّصريحات فقط، وإنّما بإلغاء اتّفاقات أوسلو الكارثيّة التي “هندَسها” وفرَضها على الشعب الفِلسطيني، والأخطر من كُل ذلك فتْحها أبواب العواصِم العربيّة أمام التّطبيع الخِياني، كما نُطالبه أيضًا، بإلغاءِ الاعتِرافِ بدولة الاحتِلال الإسرائيلي وحلّ سُلطته الوطنيّة فورًا، وإنهاءِ كُلّ أشكالِ التّنسيق الأمنيّ للتّكفيرِ عن بعضِ أخطائه.
الجريمة التي ارتكبها الرئيس عبّاس وأثارت عليه عشّ الدّبابير الصّهيونيّ وذُيوله الأُوروبيّة، تجسّدت أثناء خِطابٍ له في المجلس الثوري لحركة “فتح” في 24 آب (أغسطس) الماضي في رام الله، عندما قال، ونحن نَنقُل هُنا حرفيًّا “إنّ أدولف هتلر لم يَقتُل اليهود بسبب دِيانتهم، وإنّ أوروبا لم تكره اليهود لأنّهم يهود، وهذا ليس صحيحًا، وإنّما بسبب دورهم الاجتماعيّ، وبسبب الرّبا والمال، وليس بسبب دينهم”، وأضاف “اليهود الأشكناز ليسوا ساميّين، ولم ينحدروا من نسلِ بني إسرائيل القُدُماء، بل من المُتحوّلين إلى اليهوديّة في القرنِ الثامن، ومن بينهم قبائل الخزر التّركُمانيّة، أمّا اليهود السّفارديم (الشرقيّون) فهُم ساميّون”.
أين الخطأ، وأين إنكار المحرقة في كُل ما تقدّم؟ فكُتب التّاريخ مليئةٌ بدراساتٍ وبنظريّاتٍ، ووقائعٍ، وأدلّةٍ، تُؤكّد ما قاله الرئيس عبّاس حرفيًّا، مُضافًا إلى ذلك أنها ليست المرّة الأُولى التي يقولها الرئيس الفِلسطيني فقد أكّدها في أُطروحة رسالة دُكتوراة حصل عليها من جامعةٍ روسيّة، وشكّك في أرقامِ المحرقة، والكثير من الظّروف والدّعايات المُحيطة بِها.
فلماذا لم نشهد هذه الضجّة والاتّهامات، وسحب الأوسمة عندما نَشَرَ الأديب البريطاني الشّهير وليم شكسبير روايته “تاجِر البُندقيّة” التي تُوثّق مسألة الرّبا، وبطَلها شايلوك، ولماذا التزمت هذه اللوبيّات اليهوديّة الصهيونيّة وأنصارها الأوروبيّون الصّمت عندما أكّد سيرغي لافروف وزير خارجيّة روسيا أنّ هتلر من أُصولٍ يهوديّة، وأنّ بعض اليهود الألمان تعاونوا معه في مجازره؟ كما أنّ رئيسه فلاديمير بوتين قال قبل يومين إنّ الغرب استخدمَ اليهودي زيلينسكي للتّغطية على النازيّة الجديدة في أوكرانيا التي جرى استِخدامها لاستِنزافِ روسيا وتفكيكها؟
فإذا كان عبّاس مُعاديًا للساميّة لماذا تعاونوا معه، ووقّعوا اتّفاقات أوسلو، ودعموا سُلطته، وحوّلوا أجهزتها الأمنيّة إلى فرعٍ تابعٍ لنظيراتها الإسرائيليّة تقوم نيابةً عنها في ارتكابِ أكبرِ جريمةٍ في التّاريخ وهي حِماية الجُنود القتَلة والمُستوطنين سارِقي الأرض؟ هل انتَهى دور الرئيس عبّاس، وبدأت الخطط لإسقاطه وسُلطته، بعد أن جرَى تحضير البديل وتجهيزه لأخذِ مكانه؟
اليهود الصّهاينة الذين زوّروا التّاريخ عندما ادّعوا أن فِلسطين أرضٌ بلا شعب، وأن لا وجود لشيء اسمُه شعب عربي فِلسطيني، وأن المسجد الأقصى أُقيم على أنقاضِ الهيكل المزعوم، لن يتورّعوا عن تزوير التّاريخ الألماني الحديث، وحذف، أو تغيير كُل ما يتعلّق بتاريخهم من حقائق، خاصّةً المُتعلّقة بالمحرقة التي لا نُنْكِر أنّها من أبشعِ المجازرِ في التّاريخِ الحديث.
الرئيس عبّاس اعتذر للأسف وتراجع في آب (أغسطس) عام 2022 عن تصريحاتٍ أدلى بها أثناء زيارته إلى المانيا عندما قال في مُؤتمرٍ صحافيّ إن الإسرائيليين اقترفوا أكثر من 50 محرقة في حقّ الشعب الفِلسطيني مُنذ عام 1947 ردًّا على سُؤالٍ “ملغوم” له حول رأيه في “الهولوكوست”، ونأمَل أن لا يتراجع هذه المرّة، لأنّ ليس هُناك ما يخسره، بعد أن تراجع الإسرائيليّون عن كُلّ التِزاماتهم في اتّفاقات أوسلو، وألغوها عمليًّا، بتوطينِ حواليّ 800 ألفِ مُستوطنٍ في القدس والضفّة الغربيّة المُحتلّين، وتُريد حُكومة نِتنياهو الآن تفريغها من الفِلسطينيين من خِلالِ طردهم إلى الأردن، وإعلان ضمّها رسميًّا لاحقًا.
بعد تعرية “الماجِدات” في خليل الرّحمن أمام أطفالهنّ، والإعدامات الميدانيّة للشّرفاء في جنين ونابلس والقدس المُحتلّة، وتبخّر كُلّ “أوهام” حلّ الدّولتين كُلّيًّا، ما الذي يُمكن أن يخشاه الرئيس عبّاس وسُلطته وقوّاته الأمنيّة؟ نُطالبه أن يكون على مُستوى الشّجاعة نفسه لتامير باردو الرئيس السّابق للموساد الذي قال إنّ إسرائيل دولةُ “فصلٍ عُنصريّ” وإنها تُطبّق قانونَين مُنفَصِلين على شعبين على أرضٍ واحدة، فإذا كانَ هذا ليس “أبارتايد”، والقول هُنا للخواجة باردو، فما هو “الأبارتايد” إذًا؟
إسرائيل ولُوبيّاتها نجحت في تزوير التّاريخ، واستِخدام “أُكذوبة” اللّاساميّة لإدانة كُل من ينتقد جرائمها، والآن تُريد نزْع أهم ما لدى الغرب من حُريّات، وأبرزها “حُريّة التّعبير”، وتُحقّق تَقَدُّمًا كبيرًا جدًّا في هذا المِضمار للأسَف، فالغرب الذي نعيش على أرضِه حاليًّا ليس الغرب الذي كُنّا نعرفه.
نستطيع أن نكتب في هذا الحيّز آلاف الصّفحات عن مجازر بريطانيا في حقّ العرب والمُسلمين دُونَ أن نتعرّض لأيّ مُسائلةٍ، أمّا إذا تحدّثنا عن مجازر الصهيونيّة اليهوديّة في فِلسطين المُحتلّة، فالتّهمة جاهزة بمُعاداة الساميّة، وستكون الكارثة أكبَر وأخطر إذا أنكر أحدنا المحرقة، أو شكّك في أرقامها، استِنادًا إلى أبحاثٍ أو كُتب مُؤرّخين غربيين، فإنّ هذا انتِهاكًا للقانون يستحقّ العِقاب.
إنّهم يضَعون أنفسهم فوق كُل القوانين الوضعيّة والإلهيّة ويَفرِضون قانونهم، ويَجِدون من يخضع لغطرستهم.. ولكن هذا الوضع المُتغطرس وكُل أنواع ابتِزازه لن يدوم، وإلّا لدامت الامبراطوريّات البريطانيّة والفرنسيّة وقبلهما الرومانيّة.. والقائمة تطول، والنّهاية باتت قريبة.. والأيّام بيننا.