يبدو من الواضح أنّ العالم يشهد حرباً اقتصادية، في حين انّ أوكرانيا هي الساحة العسكرية لهذه الحرب..
فالولايات المتحدة الأميركية، التي تشعر أنها فقدت القدرة على فرض هيمنتها العسكرية والسياسية والدبلوماسية، اضطرت إلى استخدام آخر أسلحة هيمنتها على العالم المتبقية لديها وهو سلاح الدولار الذي يتحكم بحركة التبادلات التجارية والتحويلات المالية العالمية التي تمرّ عبر البنك الاحتياطي الأميركي مما يعطي لواشنطن قدرة التحكم بها، ويوفر لديها سلاحاً خطيراً لمحاربة الدول التي ترفض هيمنتها من خلال فرض الحصار الاقتصادي عليها، ومعاقبة ايّ دولة أو شركة عالمية تخرق هذا الحصار.. لكن استخدام هذا السلاح من قبل واشنطن شكل سبباً لجعل الدول، التي تقاوم الهيمنة الأميركية، وتسعى إلى عالم متعدد الأقطاب والمراكز العالمية، الى البحث عن سبل محاربة هذا السلاح الأميركي وإيجاد بدائل عن التعامل بالدولار وبالتالي إسدال الستار على آخر أسلحة الهيمنة الأميركية الذي لا يزال يوفر لواشنطن القدرة على إملاء سياساتها على الدول حتى بما فيها الحليفة لها مثل دول الاتحاد الأوروبي.. وفي هذا السياق وضعت منظمة دول شنغهاي للتعاون الاقتصادي، ومجموعة دول بريكس على جدول أعمالها خطوتين عمليتين:
الخطوة الاولى، تدشين التعامل بالتبادلات التجارية بين الدول المنضوية في شنغهاي وبريكس بالعملات الوطنية، بدلاً من الدولار..
الخطوة الثانية، اتخاذ قرار في قمة بريكس الأخيرة بإيجاد عملة دولية جديدة تستخدم في التعاملات التجارية بديلاً من الدولار، وما عزز من هذا الاتجاه الجديد إعلان قبول عضوية ستّ دول هامة إلى بريكس هي، السعودية، الإمارات، إيران، مصر، اثيوبيا، والأرجنتين.
الأمر الذي دفع المحللين الاقتصاديين إلى وصف هذه الخطوة بأنها بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة على الدولار وإنهاء هيمنته على التبادلات الاقتصادية العالمية.
ولهذا سارعت واشنطن إلى الردّ على خطوة بريكس بالعمل على محاولة تشكيل نواة لتحالف اقتصادي دولي بديل يحاصر بريكس والصين ويشكل بديلاً عن طريق الحرير الصيني، وهذا التحالف الذي تعمل عليه أميركا جرت محاولة بناء نواته الأولى في قمة العشرين الأخيرة في نيودلهي، من خلال إقرار مشروع إنشاء “الممر الاقتصادي” الذي يربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط، وهو الطريق الذي تراهن واشنطن عليه لاستمالة الهند ودول الخليج للتخلي عن تطوير علاقاتها مع الصين، والقضاء على حلم الصين في إكمال مشروع الطريق والحزام، وإنهاء دور قناة السويس، وبالتالي استمالة مجموعة دول العشرين وفي الطليعة الهند والسعودية للوقوف إلى جانب واشنطن في الحرب ضدّ روسيا إنْ كان عسكرياً بدعم أوكرانيا، أو اقتصادياً بعدم التعامل مع روسيا.
والسؤال الذي يُطرح في هذا السياق هو هل تنجح واشنطن في تحقيق هدفها من هذا المشروع، والذي يكمن في وأد مشروع طريق الحرير الصيني، وإضعاف مجموعة بريكس كقوة اقتصادية عالمية صاعدة؟
إذا ما دققنا جيداً في الوقائع الاقتصادية ومصالح الدول يتبيّن لنا أنّ الرهان الأميركي على تشكيل تحالف اقتصادي دولي يعوّم الهيمنة الأميركية ويمنع انهيارها، ويقضي على حلم روسيا والصين وغيرهما من الدول في السعي إلى بناء نظام عالمي جديد يقوم على التعددية والتشاركية، إنما هو رهان لن يُكتب له النجاح بسبب العوامل التالية:
العامل الأول، انّ الهند والسعودية والإمارات، وغيرها من الدول المنضوية في مجموعة العشرين لا ترى أنّ من مصلحتها الانحياز إلى جانب طرف من الأطراف في الحرب الاقتصادية التي تخوضها أميركا ضدّ روسيا والصين، بل ترى أنّ من مصلحتها أن تكون على علاقات جيدة مع طرفي الصراع، لا سيما أنّ لكلّ طرف مزايا اقتصادية هامة، فالصين باتت مصنع العالم وبلداً متقدماً ويملك سوقاً استهلاكية هي الأكبر في العالم من حيث عدد السكان والقدرة الشرائية، كما أنها أصبحت تملك التكنولوجيا والقدرة على إنتاج كلّ ما تحتاجه الدول وبأسعار أقلّ بكثير مما تنتجه أميركا.. في حين أنّ السوق الصينية تشكل إغراء لكلّ الدول والشركات العالمية للاستثمار المربح فيها، وهو أحد الأسباب التي تدفع الشركات الأميركية إلى عدم مقاطعة الصين اقتصاديا.. أما روسيا فإنها أغنى بلد في العالم يستحوذ على الموارد من نفط وغاز ومعادن وثروات خشبية وزراعية إلخ… إلى جانب كونها دولة عظمى وتعتبر الثانية من حيث صناعة السلاح المتطوّر والقوة العسكرية في العالم..
العامل الثاني، أنّ الصين باتت من الدول الأكثر استهلاكاً للنفط والغاز، وهي تأتي اليوم في المرتبة الأولى ممن يستوردون النفط السعودي.
العامل الثالث، انّ مركز الثقل في الاقتصاد العالمي قد انتقل من الغرب الى الشرق، وهذا عامل مهمّ يدفع دول العالم إلى التوجه شرقاً حيث الفرص الاقتصادية، خصوصاً أنّ دول الغرب باتت تعاني من الأزمات وارتفاع كلف الإنتاج وتراجع فرص الاستثمار.. والأرقام الاقتصادية عن تجاوز معدلات النمو والإنتاج في دول بريكس، قبل انضمام الدول الست اليها، مثيلاتها في الدول الصناعية الغربية، أكبر دليل على هذا التحوّل في حركة الاقتصاد العالمي…
العامل الرابع، أنّ الهند جزء من آسيا وهي تربطها علاقات تعاون اقتصادي وعسكري قديمة مع روسيا، وهي عضو أساسي في منظمة شنغهاي، ومجموعة بريكس، على الرغم من بعض الخلافات التي تشوب علاقاتها مع الصين، ولهذا لا يمكن للهند أن تخسر علاقاتها الهامة مع روسيا ودول منظمة شنغهاي وبريكس، وتنحاز إلى جانب أميركا، وقد ظهر ذلك بوضوح في رفض الهند بأن يتضمّن البيان الختامي لقمة العشرين موقفاً ضدّ روسيا بما خصّ الحرب في أوكرانيا،
العامل الخامس، حاجة الدول إلى ضمان الأمان لاستثماراتها وحركة أموالها وودائعها، والتي تبيّن بالتجربة انّ أميركا والدول الغربية بلدنا غير آمنة، وما جرى مع الودائع الروسية أثار حفيظة دول العالم. ولهذا عمدت السعودية مؤخراً إلى سحب أموالها من سندات الخزينة الأميركية، بعد أن تكبّدت استثماراتها خسائر كبيرة نتيجة ارتفاع نسب التضخم في الولايات المتحدة.
العامل السادس، أنّ الصين تقدّم حوافز مغرية للدول للانضمام إلى مشروع طريق الحرير، ولا سيما إقامة وبناء مشاريع البنى التحتية وسكك الحديد، في حين تملك القدرات على تقديم المساعدات لإقامة مشاريع الطاقة النووية من دون شروط كالتي تفرضها الولايات المتحدة وبقية الدول الغربية، وهو ما ظهر اخيراً في الشروط الأميركية التي وضعتها واشنطن لقاء بناء مفاعلات نووية في السعودية، مما اضطر الرياض الى التلويح بقبول عرض صيني لبناء مفاعلات مماثلة من دون شروط.
العامل السابع، أنّ الهند وغيرها من الدول في مجموعة العشرين ترفض نظام الهيمنة الأميركي الأحادي القطب، وتدعم بناء نظام دولي يقوم على التعددية، ولهذا لا يمكن لها أن تؤيد واشنطن في سياستها لتعويم هيمنتها الأحادية، وهذا أيضاً أحد العوامل التي تجعل هذه الدول تتمسك بعلاقاتها مع منظمة شنغهاي ومجموعة بريكس.. وترفض الانحياز إلى جانب الموقف الأميركي الغربي في الموقف من الحرب في أوكرانيا.. ما دفع صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية إلى وصف البيان الختامي لقمة العشرين بمثابة “ضربة للدول الغربية بسبب عدم وجود إجماع عالمي على دعم أوكرانيا”.