أسامة خليفة
كاتب فلسطيني
عندما تولى يهودا باراك رئاسة الأركان الإسرائيلية في نيسان 1991 بلّور خطة عمل سنوية جديدة، تستند إلى تقليص أعداد الجنود، ومصروفات الجيش، في سبيل الاستثمار والتوظيف بصورة أكبر في المجال التكنولوجي الحربي، والإعداد لجيش مستقبلي أقل عدداً يتسلح بأسلحة ذات دقة عالية محكمة التوجيه، ويتزود بالتقنية الرفيعة، مع تحسين مستوى التدريب، بما يسمح بتقليص عدد أفراد الخدمة العامة لصالح المعدات الحديثة، أي جيش صغير لكن متطور نوعياً، مستنداً إلى تفوق إسرائيل على العرب على المستوى التكنولوجي، يؤهله هذا التفوق تحقيق الانتصار بثمن منخفض، وحسم سريع بأقل الضحايا، من خلال قوة النيران ودقتها.
ومنذ ذلك التاريخ بدأ أركان الجيش تسريح آلاف العسكريين خلال 2-3 سنوات والقيام بإجراءات أخرى من تخفيض النفقات لصالح امتلاك تكنولوجيا متطورة وأسلحة ذكية، وتأهيل الضباط والجنود النظاميين على استخدامها، وتوجيه الأموال لمزيد من الاهتمام بالصناعات العسكرية، وتطوير معدات حربية جديدة، كتطوير صاروخ مضاد للصواريخ البالستية، وإعداد نظام إنذار مبكر للصواريخ، وتطوير قمر صناعي إنذاري، وآخر لغرض التجسس، وتوفير الأموال لشراء مزيد من طائرات F16 المتطورة، وفق استراتيجية تقوم على تقليص عدد أفراد الجيش الإسرائيلي بعد انتهاء زمن الحروب الكبيرة، إثر خروج مصر من دائرة الصراع العربي الإسرائيلي بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد، ولحق الأردن بمصر بعد توقيع اتفاقية وادي عربة.
عدد من الضباط الإسرائيليين حذر من جهود التسلح في المنطقة، والتهديد العسكري العربي على المدى البعيد،
وخلال حرب 7 أكتوبر على عدة جبهات، وجّه عدد من الجنرالات الإسرائيليين السابقين انتقادات لقادة الجيش بسبب تصوراتهم التي عملت على تقليص حجم الجيش من حيث الموارد البشرية والعتاد التقليدي.
ومن بين هؤلاء الجنرال السابق إسحاق بريك الذي أشار إلى أنه «ومنذ عام 2002، خُفّضت القوات البرية بنسبة 66%، أي إلى ثلث حجمها». وأضاف بريك أنه «خلال تلك السنوات، تم تقليص آلاف الدبابات من الجيش، وحوالي نصف كتائب المدفعية، والعديد من وحدات المشاة، والكتائب الهندسية، وتقليص 6 فرق من القوات البرية، والتي نفتقر إليها اليوم».
وقال: «لمدة 20 عاماً تقريباً، عاش معظم رؤساء أركان الجيش الإسرائيلي على تصور أدى إلى تفكك الجيش الإسرائيلي، حينما قرروا أن الحروب الكبرى قد انتهت، وأن لدينا سلاماً مع مصر والأردن، وبالتالي يمكننا الاكتفاء بجيش صغير وتكنولوجي وذكي يتمتع بقدرات هجومية».
ولن يحل أزمة النقص الحالية تعديل قانون الخدمة العسكرية ليشمل تمديد الخدمة الإلزامية لتكون 3 سنوات بدلاً من 32 شهراً كما هو معمول به، وأنه قد يلجأ لتجنيد الآلاف من الحريديم لتعويض النقص.
وكانت القناة الـ12 الإسرائيلية كشفت، في وقت سابق من الشهر الماضي، عن أن الجيش الإسرائيلي يعاني نقصاً حاداً في صفوفه بنحو 7 آلاف مقاتل ومساند للقتال، بسبب الحرب المستمرة في قطاع غزة، أما العامل الآخر الذي ساهم في نقص القوى العاملة، فهو قرارات رئيس الأركان الجديد المتعلقة بإنشاء لواء مشاة جديد إضافي، وإنشاء كتيبة هندسية واحدة على الأقل، وإعادة إنشاء سرايا استطلاع للألوية المدرعة التي تم تفكيكها وإغلاقها في العقد الماضي، كما قرر رئيس أركان جيش الاحتلال الجديد إيال زامير إنشاء لواء دبابات إضافي، ويواجه زامير تحدياً داخلياً يتمثل في تحسين قدرات الجيش الذي خاض معارك طويلة لأول مرة، واستعادة الثقة بين الجمهور والجيش الإسرائيلي، وفي انخفاض الملتحقين بالخدمة من جنود الاحتياط، إذ انخفضت نسبة الملتحقين بالخدمة العسكرية من صفوف الاحتياط إلى 30%، ويقول ضباط إسرائيليون إنه تم إلغاء سرايا بأكملها، نظراً لعدم توفر ضباط عسكريين يتولون قيادتها، وأن الجيش الإسرائيلي تحول إلى خدمة عسكرية عالية الأجر للملتحقين بالخدمة لأسباب مادية، وهو ما بات يثقل الميزانية العامة في إسرائيل. عدم استجابة جنود الاحتياط للاستدعاءات تعود لأسباب عديدة منها: الانقطاعات الطويلة عن العمل والدراسة والحياة الأسرية، تزايد الأعباء المادية والمعيشية، انهيار المشاريع الخاصة لجنود الاحتياط، ولا يمكن تخفيف هذا العبء بالمال وحده، وبسبب خشية الاختطاف، والإرهاق من الخدمة العسكرية طويلة الأمد، وشعور البعض أنهم معرضون لأن يكونوا ضحية أهداف اليمين المتطرف المهتم بالعودة إلى الحرب دون مبالاة تجاه العبء الملقى على عاتق جنود الاحتياط والجيش النظامي، قيام آلاف جنود الاحتياط بتعليق خدماتهم احتجاجاً على الإصلاحات القضائية، رفض الحرب مجدداً لأنها تعرض حياة الأسرى الإسرائيليين وحياة الجنود للخطر، عدم رغبة عدد منهم في تأخير دراستهم الجامعية.
كشفت وزارة الحرب الإسرائيلية عن خطة جديدة لتخفيف العبء عن جنود الاحتياط، تستهدف تجنيد 10 آلاف جندي لتعويض خسائر الحرب، ومن ضمنها تجنيد نحو 6 آلاف من الحريديم خلال عامين، ومع رفضهم التجنيد، وصعوبة التوصل حتى الآن إلى توافق في مسألة تجنيدهم في الجيش، يسعى جيش الاحتلال إلى سبل أخرى مثل إنشاء شركات مقاتلة قصيرة الأمد، زيادة تجنيد النساء للقيام بأدوار قتالية. التواصل مع جنود مقاتلين سابقين من كبار السن في محاولة لتشكيل ألوية احتياطية جديدة من المتطوعين الذين تتراوح أعمارهم بين 40 و60 سنة. وكشفت صحيفة "هآرتس" أن الجيش لجأ إلى إنشاء نظام للإعلان عن الوظائف على موقعه الإلكتروني لتعويض النقص الخطير الذي يعاني منه جيش الاحتياط، وتم فتح وكالة تجنيد بديلة على مواقع التواصل الاجتماعي تقدم حوافز من أجل تشجيع الإسرائيليين على التجنيد، بما في ذلك نظام المداومة. تجنيد المرتزقة، ومزدوجي الجنسية، وصولاً إلى تجنيد جيش الاحتلال لطالبي اللجوء الأفارقة للقتال في قطاع غزة ضمن صفوفه، مقابل تسهيل حصولهم على حق الإقامة، دون مبالاة بأن هذا التجنيد يعد انتهاكاً لأبسط قواعد حقوق الإنسان، باستغلال حاجة المهاجرين وطالبي اللجوء، للزج بهم في المعارك.
النقص في الموارد البشرية يثير التساؤل حول تكاليف الحرب ومكاسبها، وهل الجيش الإسرائيلي قادر على العودة إلى القتال مجدداً في غزة؟. جيش صغير، متطور نوعياً، تنقصه الموارد البشرية، والعتاد التقليدي، هل هو قادر على الحرب البرية؟.
يواجه زامير أزمة في الحاجة إلى آلاف الجنود لتنفيذ إصلاحاته، ويهدد نقص القوة البشرية خطط رئيس الأركان الجديد بغزة، حيث تصطدم مساعيه المتعلقة بإعادة ترتيب وتطوير الجيش الإسرائيلي، وشن عملية برية جديدة في قطاع غزة، بالعديد من التحديات التي تسببت بأزمة غير مسبوقة في الجيش الإسرائيلي الذي خاض أطول حروبه على الإطلاق، وقاتل في جبهات عدة بالتزامن، أوقعت في صفوفه خسائر يصعب تعويضها، ونقص عدد وعتاد يصعب ترميمها.
ويحتاج الاحتلال الإسرائيلي إلى التوسع السريع في الألوية المدرعة والهندسية التي خلّفت لدى الجيش عجزاً متزايداً في القوى العاملة، مما يقع على عاتق أفراد الخدمة الحاليين أعباء عمل شاقة لم يشهدها الجيش منذ عقدين. وقد أرهق جدول الانتشار الجنود النظاميين الذين يواصلون تحمل العبء الأكبر، في إدارة المواقع الجديدة المقامة داخل الأراضي اللبنانية، وفي استمرار التواجد العسكري في المنطقة العازلة على مرتفعات الجولان السورية، وعلى طول المنطقة العازلة مع قطاع غزة. وتغيير مفهوم الحرب في غزة من خلال مناورات برية كبيرة، وقمع الانتفاضة في الضفة الغربية، ولتلبية احتياجات الحرب الحالية، وبحسب البيانات، فإنه تم تسريح أكثر من 10 آلاف جندي من الخدمة في الجيش الإسرائيلي منذ بدء الحرب، كما قتل أو جرح ما يقارب 12 ألف جندي معظمهم من القوات المقاتلة منذ 7 تشرين الأول /أكتوبر 2023.
الكاتبة في هآرتس نوريت بليزانتل، طالبت رئيس الأركان الجديد بأن يدرك أنه لا يملك الجنود الكافيين للحرب التي يعد لها، وأن يطلع القيادة السياسية على المستجدات بناء على ذلك. ويقول موقع تايمز أوف إسرائيل، إن العودة إلى حرب برية شاملة ضد فصائل المقاومة الفلسطينية قد تكون أكثر تعقيداً الآن في ظل تراجع الدعم الشعبي، والإرهاق الذي تعرض له جنود الاحتياط، والتحديات السياسية.
وتقول صحيفة يديعوت أحرونوت إن الغموض لا يزال يكتنف خطط الجيش الإسرائيلي في غزة، وقد طالبت القيادة السياسية مؤخراً باستدعاء جماعي لمئات الآلاف من جنود الاحتياط بموجب أمر التعبئة الطارئة المفتوح.
ومع استمرار الحرب، واجه الكثيرون صعوبة في الموازنة بين العمل والأسرة والدراسة والانتشار العسكري، وفقاً لما ذكره جنود الاحتياط الذين أشاروا إلى تزايد أعداد الذين يطلبون الإعفاء من جولات الخدمة العسكرية.
وتشير تقديرات الجيش إلى أن النقص في الجنود من وحدات الاحتياط سوف يكون أكثر حدة، بسبب العبء المتوقع عليهم، ويأتي ذلك في ظل مطالب شن عملية برية جديدة على قطاع غزة، والمطالب الناجمة عن قرار إبقاء القوات داخل أراضي الدول المجاورة، وفي مرتفعات الجولان، وجبل الشيخ في سوريا، وفي جنوب لبنان.