بكر أبوبكر
يتخذ العالِم قراره بناء على وعي.
يتخذُ العالِمُ رأيه بناء على بحث وتمحيص وتنخيل ونقد وقراءة ودرس عميق، حتى لو خالف الرائج أو المتداول والمشهور.
للعالِم أن يغيّر رأيه، أو يؤثر فيغيّر رأي الآخرين والمسار، ويتخذ من أبحاثه منصّة للتحرر من الموروث لأن القاعدة لديه مرتبطة بالمنهج العلمي.
المفكّر والمؤرخ والبحاثة والصديق فاضل الربيعي (1952-2025) الذي رحل عن عالمنا منذ أيام فقط اتخذ منهجًا بحثيًا مختلفا في التاريخ، والإخباريات والموروث العربي واستند لقراءة عميقة ومجموعة مباحث وأسفار نطقت له بحقيقة فلسطين العربية عبرالتاريخ. حيث رآها في سياق الرواية التوراتية في مساحة أو مسرح اليمن القديم.
مما لا شك فيه أن هناك من سبق الربيعي في هذا الأمر، حيث مسرح التاريخ التوراتي القصير جدًا تاريخيًا كان في اليمن القديم (من جنوب مكة وصولًا لليمن الحالي)، لكن التوسع لدرجة كبيرة جدًا والتفصيل كان من نصيبه.
ألف الأستاذ فاضل الربيعي عشرات الكتب والأبحاث في فلسطين، وقبيلة بني اسرائيل القديمة المندثرة، وفي الديانة اليهودية وعرف الكنعانيين والفلسطينيين....من القبائل والجماعات كلها، وعرّج على ممالك ذاك الزمان في الإطار السبَئي والحِميَري باليمن، والممالك الأخرى ذاك الزمان.
لك أن تقرأ له وتختلف أو تتفق. ولكن عليك أن تحترم الاختلاف فلا تنوء تحت ثقل الأفكار الصماء الموروثة، أو تُدفَن تحت وطأة المواقف العمياء متعصبًا لشمال أو جنوب حتى بالتاريخ والقصص والروايات والأساطير والخرافات.
جوبه العالم الكبير فاضل الربيعي بسيوف العرب والمسلمين قبل غيرهم حين وضع أصبعه على الخريطة فقوّض كافة ادعاءات محتلي فلسطين بأن أرض فلسطين لهم!؟
وأثبت كذب أن المحتلين اليوم هم ذاتهم القدماء (قبيلة بني "إسرءيل" المندثرة شيء والمحتلين لبلادنا ممن يتخذون نفس الاسم شيء ولا يلتقون الا بالديانة فقط، وليس بالأصل الإثني أو القومي أو الجنسية)، وذلك بتفجيره تاريخهم من الزاوية الجغرافية، ثم حسب علم أصل الانسان (الانثروبيولوجية) والتاريخية، وعلم الأساطير (الميثولوجيا) وعلم اللغة المقارن (الفيلولوجي) وغيره.
فكانت الحقيقة انه تاريخ (مع عديد الخرافات والاساطير فيه-اي بالتوراة) في مكان آخر غير فلسطين كما أسهب المؤرخ بالشرح سواء بأسفاره أو بلقاءاته الدسمة على قناة الغد مع الاعلامي الكبير الصديق باسم الجمل، أو من خلال الجامعات التي تبنت الرواية في المغرب لاسيما وهو قد جال عديد دول العالم موضحًا منهجه وأبحاثه وما اعتبرها فتوحاته البحثية التاريخية.
العالِمُ لا يخشى الناس وإنما يخشى أن تموت الحقيقة حين التستّر عليها ممالأة للمشهور والسائد لذلك كان حصانه يعدو بسرعة ليصل لكامل الحقيقة كما يراها.
أن العالم يخشى على الحقيقة أن تضيع ولا يخافها، كما لايخاف الناس، وإن كان في ذلك نزاع طويل أو جدل كبير وهو بذات الوقت يغيّر أو يتغير حين يجد المختلِف لذلك فالعالِم يسمع ويتأمل ويطوّر، وقد ينقلب أويثبّت.
يحضرني المسار الفكري البحثي للأخ والصديق المؤرخ أحمد الدبش الذي كان من مدرسة اليمن باعتبارها مسرح أحداث التاريخ التوراتي لكنه بعد 20 عامًا داخلته قناعات جديدة لم يخف معها أن يغيّر الاتجاه بكل قوة وثقة، فكان صلبًا ومتساوقًا مع قناعاته يجري وراء الحقيقة ليدركها. ومثله يمكن أن نقول باتجاه بحثي مختلف عن فاضل الربيعي لكل من الأساتذة الأصدقاء الكبار د.إبراهيم عباس والأستاذ حسام أبوالنصر، ود.عصام سخنيني..... وأيضًا د.علاء أبوعامر الذي أدخل العنصر الفارسي أو الهندوآري على التاريخ الفلسطيني، والفلسفة الهندوسية المختلطة مع الموسوية عند الديانة اليهودية ما كتبنا عنه سابقًا وما يحيل من يرغب أن يستكشف ويتبيّن أن يطّلع على الأبحاث لكل هؤلاء العلماء فيقارن ويستكشف بعقل مفتوح.
فاضل الربيعي عندما أسّس مدرسته بحث مطولًا عن أفضل الطرق لهزّ القناعات الميتة والمصمتة فكان ذلك رويدًا رويدًا حتى اكتمل مشروعه التغييري.
التقيت الأستاذ فاضل الربيعي لأكثر من مرة، وحادثته كثيرُا، فكان رجلًا ثريًا بالمعلومات وهو منذ العام 2008 كما اعتقد قد أضاف لقناعاتي الكثير، منذ أن أشار اليمنيون-قبل ذلك- لياسر عرفات قائلين له هذا هو الهيكل هيكل سليمان إنه هنا!
كتب فاضل الربيعي عشرات الأسفار مثل: فلسطين المتخيلة، أرض التوراة في اليمن القديم، وكتاب مصر الأخرى إسرائيل المتخيلة مساهمة في تصحيح التاريخ الرسمي لمملكة إسرائيل القديمة، وكتاب يهوذا والسامرة البحث عن مملكة حِميَر اليهودية، وكتاب الرومان ويهود اليمن لغز الهيكل لثاني، وأيضًا الألغاز الكبرى في اليهودية. والقدس ليست أورشليم وهو الكتاب الذي شرفني الأستاذ فاضل أن أكتب كلمة عنه في الغلاف الخلفي له بالطبعة الفلسطينية. وكتاب حقيقة السبي البابلي، وكتاب أسطورة عبور الأردن وسقوط أريحا....وعشرات الكتب والأبحاث الأخرى.
لطالما جوُبِهَ الربيعي بالقول الضعيف أنك بأبحاثك هذه تريد أن تنقل القضية (الصراع) أو المشكلة العربية الفلسطينية-الإسرائيلية الحالية الى اليمن! بمعنى أن كون مسرح أحداث التوراة التاريخي هناك يعني أن (اسرائيل) الحالية يجب أن تكون هناك؟! وهذا كلام غير صحيح قط، لأنه كما ردّد طويلا أن أتباع الديانة اليهودية الحاليين لاعلاقة لهم بالقدماء المندثرين من قبيلة بني اسرائيل القديمة، وإنما هم من اعتنقوا الديانة من شعوب شتى، وبالتالي لايحق لمن اعتنق الديانة اليهودية أن يدّعي أنه وريث القبيلة المندثرة، أو أنه من نسلها، أو أن أرضهم القديمة أرضه كما حال المثال مع المسلمين الماليزيين او الباكستانيين مثلا حيث لا يحق لهم لأنهم مسلمين أن يقولوا أنهم من قريش وأن مكة والمدينة أرضهم لأنها أرض نبيهم ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم!
فاضل الربيعي لم يترك القلم حتى وفاته، فهو عبارة عن سجلّ تاريخي وثقافي وفكري وأيضا سياسي لا ينضب، وفاجأتنا وفاته والمسألة التي طرحها مازالت قيد الغضب أو التفكر أو التقبل، أو الرفض من الآخرين خاصة ممن انسحقوا تحت ما يسمى (الاسرائيليات)، أو ممن آمنوا بروايات المستشرقين من الغربيين الاوربيين المستعمرين (المستخربين) الذين كان جلّ سعيهم مطابقة مسرح أحداث التوراة مع فلسطين ولو بالتزوير-وهو ما حصل- وهو ما درج على تبنيه حتى من عديد العرب والمسلمين. مع الاحترام بالقطع لأصحاب النظريات العلمية التاريخية الأخرى التي تعاملت مع فلسطين ممن ذكرنا أسماءهم او لم نذكر بهذه السطور.
فاضل الربيعي (بعلمه الذي يُنتفع به) لم يكن عالمًا فقط وإنما أيضا كان مقاتلًا شرسًا لا يتصدي للحجة الا بالحجة والبرهان والدلائل المادية، فأرهق مخالفيه وأمتع أصحاب العقل والتفكر أمثالي وأمثال مَن جعل من الإيمان والعقل مصباح الهدى.