روح فهمان تسبح في شراع جاك "من رواية قنابل الثقوب السوداء"
إبراهيم أمين مؤمن-مصر
"إيريكا300" نادى جاك بصوت هادئ، وكأن الفضاء نفسه قد استجاب لندائه.
ردّت جوليا عبر القناة الداخلية: "إنها تجمع النفايات الفضائية حاليًا."
لحظات قليلة، ثم ظهرت إيريكا. كان الضوء الأزرق في عينيها الاصطناعيتين يومض بإيقاع ثابت، كما لو كانت تفكر.
"إيريكا، سأدخل في كبسولة السبات."
قالت: "تمت الموافقة. بدء إجراءات السبات."
خطا جاك إلى الكبسولة الفردية، حيث انزلقت الأبواب بانسيابية خلفه، وحوصر في عالم من السكون. بدأ نظام التبريد في العمل، وانخفضت درجة حرارته تدريجيًا إلى 33 درجة مئوية. من خلال أنبوب دقيق، أدخلت إيريكا سائلًا خافضًا للحرارة إلى مجرى أنفه، مما أدى إلى تباطؤ نبضه وتنفسه، حتى وصل إلى حالة من السكون التام، أشبه برحلة هادئة بين أروقة الزمن.
ثماني ساعات مضت. كان الوقت هنا بلا معنى، لكن إيريكا لم تنسَ. بهدوء، أيقظته مؤقتًا عبر أنظمة التحفيز العضلي. أمسكت بمعصميه وكاحليه، وبدأت في تنفيذ سلسلة من التمارين السويدية بدقة رياضية، لضمان عدم فقدان كتلة عضلاته. بعد لحظات من التمارين، عاد إلى حالة السبات العميق.
ومر شهر أخيرًا، ومع اقتراب موعد استيقاظه، قامت إيريكا باستخدام أنابيب أنفية معدية دقيقة – أجهزة تعمل بتقنية مزدوجة تجمع بين التبريد والتدفئة. بدأ جسده يستعيد نشاطه ببطء، حتى عاد معدل ضربات قلبه وتنفسه إلى المستويات الطبيعية. فتح جاك عينيه بتثاقل، وشعر كأنه عاد من حلم امتد إلى الأبد.
دون كلمات، نهض من الكبسولة، واتجهت جوليا نحوها لتتبادل معه الأماكن. لقد كان السبات وسيلتهم الوحيدة لعبور الزمن، وتقليص استهلاك الموارد. في هذه الرحلة الطويلة عبر الفراغ، لم يكن هناك شيء أهم من الوقت – وكان عليهم أن يغشوه ليصلوا إلى هدفهم بأقل خسارة ممكنة.
في الخارج، كانت النجوم لا تزال تلمع، بلا اكتراث.
***
في البُعد الكوني لوتر الشيطان، حيث تذوب القوانين الطبيعية في معادلات غير مكتملة، كان فهمان يرقد على الطاولة – ميتًا، لكن ليس تمامًا.
ثلاث سنوات مضت. ثلاث سنوات من العذاب المستمر. لم يكن يوم يمر دون أن يدخل الملك محرز ومعه شمهروش إلى الغرفة المعزولة، حيث تمدد فهمان بلا حراك، عيناه جاحظتان في الفراغ، أنفاسه هادئة بشكل غير طبيعي.
كان الفريق الطبي يراقب الشاشات. بيانات لا معنى لها تتراقص أمامهم، أرقام ترتفع وتنخفض دون نمط واضح. كانت هناك مشكلة... مشكلة لم يسبق لهم مواجهتها من قبل.
التئام الجسد كان غير مستقر – في لحظة يبدو وكأنه يندمج تمامًا، ثم فجأة، يضطرب كما لو أن شيئًا غير مرئي يحاول تمزيقه مجددًا. الأمر لم يكن بيولوجيًا فقط، بل كان شيئًا آخر... شيئًا لا يخضع للمنطق.
لم يكن اضطراب الجسد المشكلة الوحيدة، بل الروح نفسها. أحيانًا تهدأ وكأنها تتقبل مصيرها، ثم فجأة تثور كوحش محاصر، تصرخ بلا صوت، تقاوم قوة لا يمكن قياسها أو حتى تفسيرها. فريق الأطباء – أمهر خبراء الجان في هذا المجال – وقفوا عاجزين. كل محاولة للفهم كانت تقودهم إلى المزيد من الغموض.
كان محرز ينظر إلى الجسد الممدد، حاجباه معقودان بحزن غامض. شيء ما في فهمان لم يكن طبيعيًا. لم يكن مجرد مريض آخر يخضع لإجراء طبي معقد. كان هناك شعور مزعج بأن فهمان ليس مجرد حالة... بل حالة استثنائية، نقطة التقاء بين قوتين متناقضتين، صراع لا ينتمي لهذا العالم وحده.
في الغرفة المظلمة، حيث الضوء الأزرق الخافت ينعكس على الشاشات، جلس محرز صامتًا، عينيه مثبتتين على الجسد الممدد أمامه. لم يكن مجرد ملك للجان، بل كان طبيبًا نفسيًا قبل أن تبتلعه هذه الحياة. كان يفهم ما لم يفهمه الآخرون.
"هم لا يعرفون... لكني أعرف."
كلماته خرجت هامسة، وكأنه يخاطب نفسه أكثر مما يخاطب الحاضرين. "ليكن الله في عونك يا ولدي." ثم صمت. شيئًا ما كان يحدث... شيئًا أبعد من هذه الغرفة، أبعد حتى من هذا البُعد الكوني. فهمان لم يكن يعاني بلا سبب. هناك أمر جلل على بُعد الأرض تتفاعل معه روحه. إنه أكثر حساسية من غيره... يتأثر أكثر منهم."
وقف محرز فجأة، وكأن إدراكًا خاطفًا ضربه في أعماق وعيه. التفت إلى أحد العفاريت الواقفين عند المدخل، ملامحه بلا تعبير، لكنه كان مستعدًا.
"اخترق وتر الطين. اذهب إلى الأرض وأخبرني ما يحدث."
لم تكن هناك حاجة لمزيد من التوضيح. العفريت انحنى، ثم تبخر كظلٍ ابتلعه الفراغ.
لم تمر سوى ستة عشر ساعة– أو ربما ما بدا كستة عشر ساعة في هذا المكان الذي لا يخضع لقوانين الزمن كما نعرفها – حتى عاد، وعيناه تشعان بتوتر غير معهود.
"الطينيون لا حديث لهم إلا عن رحلة جاك."
رفع محرز حاجبًا، لكنه لم يقاطعه.
"فطرت وراءه... وجدت شراعًا يسبح في الفضاء... لكن الكارثة ليست هنا."
ابتلع العفريت ريقه—وهو أمر نادر في جنسه—ثم أكمل بصوت خافت، كأنه يخشى أن تنطق الحقيقة بنفسها" :إنه يقترب من بوابة العدم، أيها الملك… بوابة الجحيم… جسر الهلاك… الثقب الأسود. لا أحد يفلت منه. وإن أفلت، فسيسقط في بُعد كوني لا يرحم… بُعد تحكمه الآلات."
تقدم محرز، وأمسك بالعفريت بجذبة عنيفة، عاقدًا حاجبيه:
"هل أنت متأكد؟ لا بارك الله لك إن كنت تهذي!"
ارتجف العفريت وقال بصوت مرتعش:
"نعم، متأكد. إن شراع جاك يسير بسرعة تقترب من عُشر سرعة الضوء. وإن نجا من تزاحم الأجرام السماوية، فسوف يصل إلى الثقب الأسود في غضون سبع سنوات. أما أنا، فقد قطعت المسافة في ثماني ساعات فقط لأعاين حجمه… وكاد أن يلتهمني! لولا سرعتي، لكنت الآن في العدم."
تراجع محرز، شاحب الوجه كمن نزلت عليه كارثة:
"إذن… جاك ميت، وفهمان سيلحق به لا محالة."
***
ثلاث سنوات كانوا يصلّون.
كان الهيكل قائمًا، شامخًا وسط القدس المُعاد تصميمها، لكن لم يكن مجرد معبد. لقد أصبح مركز قيادة، حيث يلتقي الدين بالعلم، وحيث تُدار واحدة من أعقد العمليات السياسية في التاريخ الحديث.
في أعماق المدينة، حيث تمتد الأنفاق المحصنة بأنظمة دفاع مغناطيسية، كان يعقوب إسحاق يراقب شاشة رقمية تعرض بيانات مشفّرة عن حالة الثقب الأسود. لم يكن أي ثقب... كان سلاحًا.
اقترب وزير دفاعه، نبرة صوته محايدة ولكن مليئة بالتوتر المخفي:
"سيدي، ألم نغيّر خطتنا بعد اكتشاف امتلاك أمريكا واليابان لقنابل الثقوب السوداء؟"
يعقوب لم يرفع رأسه عن الشاشة. أرقامه لم تكن مبشّرة.
"الحذر ضروري،" قال أخيرًا. "نحن لا نعرف كيف سيتفاعل المسيا الملك مع الوضع الحالي. لا نعرف حتى إن كان سيعتبرنا أعداءً أم حلفاءً."
ضغط الوزير على شفتيه. "ولكن الـFCC-2 محصّن، أليس كذلك؟"
يعقوب أدار كرسيه نحوه أخيرًا، وجهه بلا تعبير واضح. "المعادلات الكمومية تقول شيئًا آخر. نحن نراهن على أن الثبات مضمون، ولكن هناك احتمال، ولو ضئيلًا، أن يحدث انهيار مفاجئ. إذا حدث ذلك، فستنتهي كل قنابل الثقوب السوداء."
الوزير ابتلع ريقه، ثم همس: "وأمريكا واليابان؟"
يعقوب أطلق زفرة طويلة، كأنما ينظر إلى مستقبل مكتوب مسبقًا على هذه الشاشات. "لديهم الأسلحة ذاتها. إذا لم نقم نحن بتوجيه الأحداث، فإنهم سيفنون بعضهم بعضًا دون أن نتدخل. وحينها، ستكون اللحظة المناسبة لإعلان إسرائيل الكبرى."
في الأعلى، عند الهيكل، كان رجال الدين يستمرون في صلواتهم، عقولهم مبرمجة على انتظار المسيا الملك، متجاهلين المعادلات التي تدور في الخلفية.
لكن خارج الأرض، في النقطة التي يلتقي فيها الضوء بالعدم، كان هناك شيء آخر يحدث. ثقب سحابة أورط بدأ في التفاعل.
لم يكن مجرد فراغ فيزيائي... بل كان احتمالية جديدة تمامًا، احتمالًا غير محسوب في أي من معادلات الأرض.
والآن؟ العالم كلّه ينظر إليه.
***
ولأول مرة، اهتزّت أركان التاريخ، لا لأن الملوك سقطوا، بل لأن أولئك الذين لم يكونوا يملكون حتى ظلهم قد أصبح لهم وطن. تحت الأنفاق، حيث كانت الدموع تُمسح دون أن تُرى، وحيث كانت الأحلام تُولد فقط لتُدفن، هناك نشأت حضارة لم يكن لأحد أن يتوقعها.
كانوا "الفقراء"، أولئك الذين لم يُذكروا في كتب العظماء، ولم يعبأ أحد بموتهم أو حياتهم. لكنهم الآن... الآن قد صار لهم أسماء، وأرض، وبيوت يُغلق بابها بالمفتاح، لا بالحجارة.
الأغنياء، الذين طالما سكنوا فوقهم، لم يعطوهم كل شيء، لكنهم منحوا جزءًا، وربما لأول مرة، لم يكن ذلك منّةً بل خوفًا. فحين يتمرد البحر، لا خيار أمام القبطان إلا أن يفرغ بعض الحمولة كي لا يغرق المركب.
ثلاث سنوات مرّت، والمدينة لم تعد كما كانت. ارتفعت المباني حيث كانت الأقبية، وسالت المياه النقية حيث كان الجفاف. أما جاك؟ فقد عبر الفضاء، ولا أحد يعلم إن كان سيعود، لكن رحلته لم تكن أهم من الرحلة التي حدثت هنا، على هذه الأرض، حيث ولدت حضارة الفقراء من رحم الأغنياء.
تدقيق 5/3/2025