أدرك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بعد سنوات من الصراع الخفي، ضرورة العودة للخليج والتصالح مع الدول العربية المجاورة بعد التغيرات الإقليمية التي جرت مؤخرًا وأجبرت أنقرة على ضرورة صياغة سياستها الخارجية من جديد.
على رأس هذه التغيرات، انهيار الاقتصاد التركي . والذي كان الدافع الأكبر لأردوغان لإعادة صياغة السياسة الخارجية لأنقرة، وإعادة رسم خريطة التحالفات.
التقارب التركي الإسرائيلي.. لماذا الآن؟
شملت هذه المساعي زيارات رسمية للجانبين، وإعلان عن زيادة حجم الاستثمارات بين البلدين، حيث زار الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ تركيا في مارس المنصرم، في زيارة هي الأولى لرئيس إسرائيلي إلى تركيا منذ 2007.
وتوترت العلاقات التركية الإسرائيلية بعد مقتل 10 مدنيين خلال مداهمة قافلة بحرية تركية كانت متجهة إلى قطاع غزة في العام 2010. وتصاعد التوتر مع سحب سفيري البلدين في 2018 بعد مقتل محتجين فلسطينيين في قطاع غزة. ويثير التقارب بين الطرفين تساؤلات حول أسرار هذا التقارب بعد سنوات من توتر العلاقات.
تناولت المحادثات بين الرئيسين في المجمع الرئاسي بالعاصمة التركية مستجدات الملف الأوكراني الروسي. وملف شرقي البحر الأبيض المتوسط. ومشروع مد خط أنابيب غاز من إسرائيل لأوروبا مرورا بالأراضي التركية.
تقول الخبيرة في الشأن التركي في معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، غاليا لندنشتراوس، أن زيارة هرتسوغ تمثل “منعطفًا بالنسبة للرئيس التركي رغم عدم وجود تغير جوهري في السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين.
مشيرة إلى أن توتر علاقات تركيا مع جيرانها في أوروبا أو بالشرق الأوسط . جعلها تتراجع وتحاول الآن الخروج من عزلتها.
فيما صرح سفير تركيا السابق لدى إسرائيل نامق تان، بحسب DW، بأن هناك الآن ميلا إلى “الخطوات البراغماتية” في سياسة تركيا الخارجية . هذا بالإضافة إلى أن الأزمة الاقتصادية أيضًا تدفع انقرة إلى البراغماتية، فهي لا تستطيع تحمل قطع علاقاتها التجارية مع الخارج.
وبغض النظر عن كل الخلافات الدبلوماسية، تبقى إسرائيل شريكا تجاريا هاما لتركيا، ففي عام 2021 تم تحقيق رقم قياسي جديد في التبادل التجاري بين البلدين، والذي وصل إلى 8,1 مليار دولار، بالإضافة إلى التعاون بين البلدين في مجال الطاقة.
هذا بالإضافة إلى سعي أردوغان لإنقاذ اقتصاد بلاده بعد أزمة اقتصادية حادة، حيث خسرت الليرة التركية أكثر من نصف قيمتها ووصلت نسب التضخم إلى حدود 54%(9). كما تنتظر البلاد انتخابات حاسمة بعد عام. وترى أنقرة أن من شأن التقارب مع تل أبيب، والإعلان عن تقوية موقفها بخصوص غاز المتوسط إرسال إشارات إيجابية تسعف الاقتصاد من جهة، وتقوي موقف الحزب الحاكم من جهة أخرى.
الغاز هو كلمة السر
في مارس الماضي، صرح الرئيس التركي أردوغان، إن التعاون في مجال الغاز الطبيعي من بين أهم الخطوات التي يمكن أن تتخذها تركيا وإسرائيل، وسط محاولة لإصلاح العلاقات. مضيفا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت قد يزور تركيا. وقد تكون هناك فرصة لبدء حقبة جديدة في العلاقات التركية الإسرائيلية.
وأضاف في تصريحات صحفية، “أعتقد أن الغاز الطبيعي من أهم الخطوات التي يمكن أن نتخذها معا من أجل العلاقات الثنائية”، مشيرًا إلى أن تفاصيل التعاون ستناقش في وقت لاحق خلال زيارة وزيري الخارجية والطاقة التركيين إلى إسرائيل.
ووفقًا لتقرير مركز الدراسات التابع لـ الجزيرة، فأن الرؤية التركية للتعاون مع إسرائيل في ملف غاز المتوسط تأتي على اتجاهين اثنين:
الاتجاه الأول: يتمثل بإنشاء خط أنابيب بحرية ينقل الغاز الإسرائيلي من حقل ليفيثيان إلى البر التركي، بحيث تشتري تركيا حصة منه للاستخدام المحلي، وتصدر حصة أخرى إلى أوروبا مستفيدة من خطوط أنابيب الغاز العابرة للأناضول الموجودة أصلًا.
الاتجاه الثاني: تراهن تركيا على أن مشروعًا لاستهلاك وتصدير الغاز الإسرائيلي عبر أراضيها سيقوِّي من موقفها من النزاع على الغاز في منطقة شرق المتوسط، ولن يتركها وحيدة خارج حلف سياسي وأمني بالمنطقة.
المصالح الاقتصادية واستبعاد حماس
صرح مخيمر أبو سعدة، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر في غزة، إن تركيا تفضل مصالحها الاقتصادية مع إسرائيل في ظل تدهور سعر الليرة التركية وتراجع اقتصادها، على علاقتها مع حماس.
متوقعًا بحسب صحيفة F24، أن يتم فرض مزيد من القيود على قادة حماس بتركيا وطلب المغادرة . ربما إلى إيران أو بيروت.
وأشار مصدر مقرب من حركة حماس وموجودًا في تركيا، بأن مسؤولين أتراك ناقشوا مع قيادة حركة حماس وضع عناصر ومسؤولين فيها في تركيا. قائلاً، “ناقش مسؤولون أتراك مع قيادة الحركة مؤخرًا إيجاد آلية لاستمرار أو مغادرة آمنة لبعض القادة ذوي الصفة العسكرية بحماس في تركيا”.
ورجحت خبيرة عسكرية، لذات الصحيفة، أن تكون إسرائيل تسعى إلى وقف “التخطيط اللوجستي والعسكري لحماس على الأراضي التركية” في إطار أي تحسين للعلاقات الدبلوماسية مع أنقرة. في حين يرجح محللون لوكالة الأنباء الألمانية أن تكون الاعتبارات الاقتصادية هي وراء السعي التركي للتقارب مع إسرائيل ومختلف القوى الإقليمية الأخرى. فتركيا تعاني من أزمة مالية حادة وبلغ معدل التضخم فيها مستويات قياسية في الآونة الأخيرة. لكن دعم الحركة سيستمر في الخفاء.
وقال المحلل السياسي رضوان قاسم، أن قادة حماس المغادرين لتركيا ربما يتجهون لدول مثل: ماليزيا وإندونيسيا، أو دولاً عربية مثل إيران والعراق وسوريا ولبنان، والتي يمكن أن تشكل وجهات بديلة لهؤلاء القادة .
التقارب التركي الخليجي
شكلت زيارة الرئيس التركي لدولة الإمارات العربية المتحدة، في فبراير/شباط 2022، نقطة هامة في مسار التهدئة والحوار بين تركيا ودول الخليج، كجزء من مسار التحول في السياسة الخارجية التركية تجاه قوى إقليمية كانت على خصومة معها استمرت لسنوات.
حيث حرص أردوغان على التأكيد على أن هذه الزيارة، التي وقعت خلالها عدة اتفاقيات ومذكرات تفاهم بين الجانبين. تمثل مقدمة لمرحلة جديدة ومختلفة في علاقات البلدين. وكذلك في علاقات بلاده مع دول الخليج.
وهناك عدة أسباب دفعت لهذا التقارب بعد سنوات من الخصومة.. وهي:
أولاً: انخراط تركيا طيلة الأعوام القليلة الماضية في صراعات ونزاعات خارج حدودها . من سوريا للعراق ومن ليبيا لجنوب القوقاز. ما أدى إلى استنزاف الاقتصاد التركي . ولذا فقد سعت مع بداية عام 2021 للتهدئة ومحاولة استعادة العلاقات مع دول الجوار.
ثانيًا: يقترب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تركيا، المحددة في يونيو/حزيران 2023، في ظل استقطاب وأوضاع اقتصادية ضاغطة تجعلها استحقاقًا صعبًا على أردوغان والعدالة والتنمية، ولذلك يسعى الأخير إلى تهدئة ملفات السياسة الخارجية وحل أزماتها لتخفيف تلك الضغوط.
ثالثًا: يواجه الاقتصاد التركي مؤخرًا تحديات ضخمة، أثرت بشكل مباشر على المواطن التركي. ما أدى إلى تراجع شعبية أردوغان وحزبه، ومن ثم يعول الأخير على محاولة تحسين الأوضاع الاقتصادية عبر رفع مستوى التعاون الاقتصادي والتجاري مع الخارج قبل موعد الانتخابات.
رابعًا: البحث عن الاستثمارات الخليجية في ظل تراجَعَ حجم التبادل التجاري بين تركيا والسعودية على وجه التحديد. بسبب الأزمة الخليجية ثم قضية الإعلامي جمال خاشقجي في ظل ظروف صعبة للاقتصاد التركي. ومع تراجع احتياطي المصرف المركزي من العملات الأجنبية وحاجة تركيا الملحة لها وللاستثمارات والأموال من قبل دول الخليج.
خامسًا: يتقدم ملف شرق المتوسط أولويات السياسة الخارجية التركية مؤخرًا. حيث تواجه أنقرة محورًا إقليميًا مكونًا من اليونان، وقبرص اليونانية، ومصر، وإسرائيل. بينما تركيا تعاني عزلة ولا تملك شركاء. لذا تسعى الإدارة التركية إلى كسر العزلة وخلق تحالفات جديدة.
سادسًا: تغير الإدارة الأمريكية وفوز بايدن في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. بما يشمل علاقات متوترة مع أنقرة وعقوبات عليها. وتراجع اهتمام واشنطن بالمنطقة، ورغبتها بتوافق حلفائها وشركائها الإقليميين وتعاونهم. وتوجهها لإبرام اتفاق جديد مع إيران. هذا العامل، الذي يبدو الأهم وكمظلة وتتويج لباقي العوامل. دفع بتركيا لمراجعة بعض السياسات والاصطفافات وإعادة النظر في علاقاتها مع دول الجوار.
وفي أعقاب زيارة الشيخ محمد بن زايد لأنقرة، صرح الرئيس التركي أردوغان، قائلا: إن “الخطوة التي تمّ اتخاذها مع أبو ظبي خطوة تاريخية”، مشيرًا إلى أن هناك اتفاقيات مبدئية تبلغ قيمتها (11) مليار دولار مع الإمارات.
مؤكدًا اعتزام بلاده تحسين العلاقات مع كافة دول الخليج. قائلاً، “سنعمل على الارتقاء بالعلاقات مع السعودية إلى مكانة أفضل”.
وخلال زيارة الشيخ محمد بن زايد، أعلنت الإمارات عن “تأسيس صندوق بقيمة (10) مليارات دولار لدعم الاستثمارات في تركيا”.
باتت نتائج هذا التقارب تتجلى بشكل واضح، حيث أعلنت الحكومة التركية عن إغلاق قنوات «الإخوان». وتحجيم عملهم الإعلامي الذي كان يبث من الأراضي التركية. هذا فضلاً عن تقليص نشاطاتهم المالية والتجارية وإبرام اتفاقيات عربية تركية لتسليم المطلوبين الهاربين منهم إلى مصر ودول الخليج.
المصالحة مع مصر
تسارع بقوة خلال الأيام القليلة الماضية وتيرة التقارب بين أنقرة والقاهرة. حيث بدأت المحادثات بين البلدين تنطلق نحو إجراءات فعلية لتحقيق المصالحة.
وأشارت تقارير إعلامية إلى وجود تنسيق أمني ومخابراتي بين البلدين للنظر في تسليم بعض قيادات جماعة الإخوان إلى مصر، وأوضح موقع “انتيلجنس أون لاين” الفرنسي، أن أنقرة لديها رغبة قوية في تسريع وتيرة التقارب مع القاهرة . حتى لو وصل الأمر إلى تسليم بعض القيادات من جماعة الإخوان. وهو مطلب تصر عليه مصر ولن تتراجع فيه – حسبما يؤكد الموقع – في ظل الرغبة التركية بتصفير الخلافات بين البلدين وإعادتها لسابق عهدها.
لفت التقرير إلى أن أنقرة تدرس قائمة قدمتها القاهرة تحمل أسماء بعض قيادات الإخوان. وأبدى رئيس الاستخبارات التركية، استعداده لتسليم بعض هؤلاء الأفراد إلى دولة ثالثة. ربما ماليزيا أو إندونيسيا، كدليل وإثبات على حسن النوايا.
وتضمنت قائمة المطلوبين بعض الأسماء لقيادات إخوانية متورطة بأعمال إرهاب. منهم: القياديين مجدي سالم ونصر الدين غزلاني، المتورطين في أحداث رابعة وكرداسة. وكانا ضمن قنوات الاتصال بين الإخوان والتكفيريين في سيناء. كما كانا مكلفين من الرئيس السابق محمد مرسي بالتفاوض مع خاطفي الجنود في رفح إبان عهد الإخوان، وكذلك يحيى موسى قائد العمليات النوعية لجماعة الإخوان، وعلاء السماحي، وأدرجتهما الخارجية الأميركية بقوائم الإرهاب العالمي. فضلا عن عدد من قيادات حركة حسم المتواجدين في تركيا.
إجراءات عملية للتقارب
وقد نشرت قناة «مكملين» الإخوانية بيانًا توضح فيه نقل جميع استديوهاتها وبثها إلى خارج تركيا، ما يعني أن إعلام «الإخوان» الخارجي يعاني من الارتباك والانقسام، وذلك بعد أن أوقفت تركيا برامج إعلاميين إخوان وفرضت شروطاً على قنوات الجماعة، وبعد أن منعت المتورطين في قتل النائب العام المصري هشام بركات من مغادرة البلاد، وفرضت قيوداً جديدة على اثنين من المطلوبين الدوليين هما يحيى موسى المسؤول عن تخطيط عملية اغتيال النائب العام وغيرها من العمليات الإرهابية، وعلاء السماحي القيادي في حركة «حسم» الإرهابية وبالتالي تضييق الخناق على كوادر وأعضاء الحزب .
فيما قال الدكتور تورهان شوماز المستشار السياسي السابق لأردوغان، بحسب وكالات، أن “خريطة الطريق والخطوات التي تم اتخاذها حتى الآن داخل حزب العدالة والتنمية (الحاكم) تشير إلى أن عملية المصالحة مع مصر بدأت بالفعل. وأن تركيا تسعى لترميم العلاقات المتدهورة مع القاهرة منذ سقوط حكم الإخوان في مصر عام 2013.
مشيرًا إلى أن أن أنقرة ستعمل على اتخاذ خطوات للتقارب من بينها جعل سفارتها في القاهرة تعمل بكامل طاقتها، بتعيين سفير لها، والعمل أيضًا على إعادة بعض المطلوبين في قضايا عنف وإرهاب إلى القاهرة، إضافة إلى أن بعض رجال الأعمال الأتراك يعتزمون زيارة القاهرة قريبا”. مستطردًا: تسير الأمور نحو المصالحة لكن يبقى تطور العلاقة يسير ببطء نسبي.
ومؤخرا، ارتفع حجم التبادل التجاري بين مصر وتركيا بنسبة 32.6% مدفوعًا بارتفاع حجم الصادرات لتبلغ قيمتها نحو 2.9 مليار دولار بنهاية عام 2021. وعلى المستوى الدبلوماسي، صرح وزير الخارجية التركي عن رغبة بلاده في تعيين قائم جديد بالأعمال في مصر.
غاز شرق المتوسط وذكاء الإدارة المصرية
قال أحمد الباز، مدير مركز “الإنذار المبكر” للدراسات السياسية والأمنية. ومقره أبوظبي، في تصريحات لموقع “الحرة” الأمريكي، إن تصريحات الساسة الأتراك ومغازلة أنقرة لمصر . جاءت نتيجة التحول الاستراتيجي الذي أقرته القاهرة خلال الفترة الماضية تجاه محوري ليبيا وشرق المتوسط.
مشيرًا إلى ذكاء وحنكة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في إدارة الأزمة. وتصريحه سابقًا وتحذيره بشكل واضح في يونيو من العام 2020. بعدما تفقد وحدات عسكرية في قاعدة “سيدي براني” الجوية قرب الحدود مع ليبيا. قائلاً: “إذا كان يعتقد البعض أنه يستطيع أن يتجاوز خط سرت-الجفرة.. ده أمر بالنسبة لنا خط أحمر”.
وأشار الباز إلى توقيع اتفاق ترسيم الحدود المصرية اليونانية . وهو الأمر الذي كان بمثابة”تحول استراتيجي ثان” عكس ذكاء الإدارة المصرية. وترتب عليه “حصار” قانوني لتركيا وقضم لتوسعها غير المنضبط.
ويرى مراقبون أن تركيا تريد التوصل لاتفاق مصري – تركي حول المياه الاقتصادية بين الدولتين في شرق المتوسط.
وأوضح المراقبون أن تصريحات تركيا تريد استقطاب مصر من التحالفات القائمة في منطقة شرق المتوسط. وذلك لأن مصر تمثل ثقلا إقليميًا، وستحقق تركيا مكسبا إذا نجحت في كسر هذا التحالفات.
ختامًا.. تأمل أنقرة أن يساهم التقارب مع القاهرة وتل أبيب في تحسين موقفها في نزاع الغاز في شرق المتوسط. كما تأمل أن تساهم الاسثتمارات الخليجية في محاول إنعاش اقتصادها المنهار.