المتزلّف يركب في الدرجة الأولى

نداء الوطن - اقتصاد السوق، والسياسة

 

بكر أبوبكر

 

كان يتجول ويبني العلاقات بشخصيته المرحة المبتسمة دومًا ويحاول جاهدًا أن ينسج عديد الصداقات المهدّفة، وعبر تقديم الخدمات مهما كانت، وبالأخص مع ذوي المواقع والمناصب من مسؤوليِهِ وسواهم، فهو باجتماعيته الفاقعة الموصوفة، وقدرته على أن يُسمعك من الثناء ما تستحقه ولا تستحقه يلقَى هوىً لدى الكثيرين ممن ذاتهم تتعملق أو ذاتهم تضطرب بحب أوحد لا ثاني له أي حُب الذات.

لم يكتفِ بالمرور على المكاتب والمؤسسات، والبروز باللقاءات العامة وتلك الفضائية يُلقي بالمديح شمالًا ويمينًا وخاصة لأصحاب القرار المتفرد... حتى نال بغيته.

ماذا كان يريد هذا المتزلّف أكثر من أن يكون مقربًا محبوبًا من ذاك المدير أو المسؤول ثم الرئيس، رئيس مجلس الإدارة المتربع على عرش المؤسسة؟ وهو ماكان ولكنه لم يكتفِ بالقُرب الذي أزاح من أمامه عديد الشخصيات التي تسبِقه علمًا وفهمًا وأدبا وإخلاصًا، فالحفر مستمر.

لسانُه الرطبُ بالثناء الممجّ والمدح المفرط والتغزل المتكرر أسقطَ الكثيرين في حضن انصياعه والتذلل فكان هو المقرّب والمدلّل وكان الأثير المخلص.

في علم الإدارة وعلم المنظمة (التنظيم) عندما يجتمع حول القائد المستبد الأنصار تصبح المنافسة حامية ومشتدة، ومرتبطة فقط بمدى القرب من القائد أو المدير الذي تمتد علاقاته مع كل شخص والآخر بشكل أفقي، وبمنهج تقديم الخدمات مهما كانت.

وفي إطار نظرة الرضا أو نظرة الغضب للمتكبّر والمستبدّ النزِق يظهر المحظيون ويظهر المنبوذون، فالأوائل يركبون الدرجة الأولى والأواخر لايركبون أصلًا، أو يُحملون مع الحقائب! وربما يُقال له "حظًا أوفر".

المحظيون مثل صاحبنا لا همّ لهم إلا الحفر لأولئك الذين نُبِذوا بسببهم غالبًا حتى يزولوا عن ساحة الوغى (وهي قلب أو مصالح الفرد الواحد، ومصالحهم) و"يجاهد" المنبوذون للعودة ثانية لرِبقة المحظوظين والركوب في الدرجة الأولى، فلا تجد بين هؤلاء وأولئك الا صراع أو حرب داحس والغبراء، والمدير أوالسلطان أو الزعيم في فرجٍ من همومِه الكثيرة حيث يتحسس رأسه يوميًا، مادام الطرفان يتنافسان على القُرب من جلال طلعته البهية، ولو بكلمة أو نظرة أو لمسة كتف، أو طرفة أو إشارة أصبع.

قال الإمام الشافعي رحمه الله: ما رفعت من أحد فوق منزلته، الا وضع مني بمقدار ما رفعت منه. وهذا القول الجميل لا قيمة له عند المتزلفين والمتماجنين ومشغليهم بتاتًا وإنما هو كما يرون من أوهام الصغار وغير القادرين على الوصول "للأعلى"!

كان ابن هانئ الأندلسي زعيم المتزلّفين على مر الأزمان فلقد غلا (تمادى وتطرف) في ممدوحه غلواً قبيحاً ممجوجاً حين قال في قصيدة مطلعها:

ما شئتَ لا ما شاءت الأقدارُ *** فاحكم فأنت الواحد القهارُ

و كأنما أنت النبي محمد *** و كأنما أنصارك الأنصار

أنت الذي كانت تبشرنا به *** في كتبها الأحبار و الأخبار

يذكر الحبيب سعداوي في مقالته حول ما أسماه لعنة التزلف أن: التزلف «بالإنجليزية Ingratiation»: هو أسلوب نفسي يحاول به الفرد (المتزلِف) التأثير والتلاعب أو السيطرة على الآخر (المستهدَف)، وذلك من خلال أن يُصبح الشخص أكثر جاذبية أو محبة من قبل الشخص المستهدَف. وقد صاغ هذا المصطلح عالم النفس الاجتماعي "إدوارد إلسورث جونز". وقال أنه يمكن تحقيق هذه النتيجة للمتزلِف بالقرب والمحبة باستخدام عدة طرق:

· المجاملة الزائدة عن الحدّ، بل والمكشوفة تجاه الشخص المستهدَف.

· توافُق الرأي والذي يحدث عندما يتبنى المتزلف ويؤكد مواقف ومعتقدات الفرد المستهدَف مهما كانت.

· العرض الذاتي هو أسلوب يؤكد المتزلّف من خلاله على سماته الشخصية الخاصة من أجل أن ينظر له الشخص المستهدف (المدير، المسؤول، الزعيم...) نظرة إيجابية.

· السلوكيات الخاصة بالمواقف تتضمن معرفة المتزلف بمعلومات شخصية عن الشخص المستهدَف، ثم استخدام هذه المعلومات للحصول على موافقته وقبوله وحظوته.

· القيام بالخدمات أو المعروف وهذه الوسيلة تبدو مفيدة ومراعية للفرد المستهدف. وهذا قد يولّد أيضا مشاعر المعاملة بالمثل بين المتزلف والشخص المستهدف.

· التعبير عن الفكاهة وهو أي حدث مشترك بين المتزلف والفرد المستهدف، يحاول فيه المتزلف أن يكون مسليًّا للشخص المستهدف (أراجوز أو مهرج....).

إن المتملق أو المتزلف أو المداهِن شخصٌ متسلقٌ بالتأكيد يبتغي الوصول لما يفترض ذاته تستحقها ولو بأنذل وأقذر الوسائل، حتى لو حقّر نفسه وشتمها وأذلها في سبيل نيل الغرض، ولعلك من هؤلاء قد وجدت حولك في الشركة أو المؤسسة أو الحارة أوالبلد....الخ، وإن لم تصادف أي منهم فاحمد المولى عز وجلّ فأنت في نعيم مقيم.

قال لي خليل وهو من الأصدقاء أنه عرف في حياته شخصًا يُعدّ نموذجًا بهذ الأمر لا مثيل له أتقن فن التملّق والتزلف رغم أنه لم يحصل على شهادات عليا، فصعد من قعر السلم حتى أصبح المُدافع والمحامي الأول عن رئيس الدائرة التي يعمل فيها.

قال لي: كان لا يكلّ ولا يملّ عن كيل المدائح كصاحبنا المذكور إبن هانيء الاندلسي، ويدبّج لمديره الرسائل ويضع بنود القوانين واللوائح ومسودّات القرارات ليوقعها المدير المتفرد بذاته، الموهوم بصوابيته المطلقة.... فكانا كما يقول المثل العربي (وافق شنّ طبقة).

في القرارات التي اتخذتها الإدارة والمدير المختال بذاته وإن لم يظهر اسم المتزلف فيها أحيانًا فإن كل العاملين والزملاء كانوا يعرفون أن أصابع هذا المتزلف الجاهل قد طالت كل شيء سواء فيما يتقنه على قلّته، وما لا يتقنه على كثرته.

قلت له: وهل وصل لما يريد؟

فقال خليل: نعم. ولو مؤقتًا وهذا المؤقت للأسف دام عدة سنوات شِداد إلا أن قضاء ربك أن يفضح ويكشف هذه الشخصيات؟

قلت له:وماذا حصل؟

قال خليل: أنه ما أن تغيّر المدير وجاء آخر، وإذ بالمتزلف يعود ليكرّرنفس أسلوبه المعتاد مع المديرالجديد.

قلت: وكيف له أن يتخلى عنه!

قال: صحيح، ولكن، لحسن حظ الموظفين أن الآثار السلبية لمسار الشركة التي أدت لإقالة المديرالسابق وانعكست على العمل تم اكتشاف الشخص الذي كان وراءها.

قلت: محامي الشيطان؟

قال نعم: ومن غيره؟

قلت: وماذا حصل؟

قال: ما لاتريد سماعه!

قلت له ضاحكًا: خذ لك من التاريخ عن أحد كبار المتزلفين والمتسلقين الذي ركب الدرجة الأولى، أو كما كانوا يسمون بعضهم بالمتماجنين، والمدعو أبودلامة، ماذا حصل معه في أحد الحوادث: "لم يكن أبو دلامة يتحرّج من ذم نفسه إذا وقع في مأزق يضطره إلى ذلك، فقد دخل مرة على الخليفة المهدي وعنده أكابر رجال الدولة والأسرة العباسية من بني هاشم، فقال له المهدي "أنا أعطي الله عهدا لئن لم تَهجُ واحدًا ممّن في البيت لأقطعنّ لسانك، فنظر إليه القوم وغمزه كلُّ واحد منهم بأنّ عليّ رضاك، قال أبو دلامة فعلمتُ أنّي قد وقعتُ (تورطت)، وأنها عزمة من عزماته لا بدّ منها، فلم أرَ أحدًا أحقّ بالهجاء مني، ولا أدعى إلى السلامة من هجائي نفسي، فقلتُ:

ألا أبلِغْ لديك أبا دُلامه *** فلستَ من الكِرامِ ولا كرامه

جمعتَ دمامةً وجمعتَ لؤمًا *** كذاك اللؤمُ تتبعه الدمامة

فإن تكُ قد أصبتَ نعيم دنيا *** فلا تفرح فقد دَنَتِ القيامة!

فضحك القوم ولم يبق منهم أحد إلّا أجازه (أعطاه جائزة)".

 

 

نداء الوطن