عقد بمقر مركز مدى للدراسات والأبحاث الإنسانية؛ يومه الجمعة 07 مارس 2025 اللقاء الثالث ضمن الموسم الثاني من مشروع "مفاهيم ذات الصلة بالتحول الديمقراطي"، والذي اختار تيمة لهذا الموسم تحت عنوان: "الحداثة السياسية: المفاهيم والأسس". حيث شكل موضوع: "الحرية"، مدار هذا اللقاء الذي شارك فيه ثلة من الباحثين والمتخصصين.
افتتح الأستاذ عبد الكريم بحير، الباحث في الفلسفة السياسية وفلسفة القانون وعضو مركز مدى، باعتباره مسيرًا للقاء، مرحبًا بالحضور وبالأساتذة الباحثين. كما وضع الحضور والمشاهدين عبر أدوات التواصل الاجتماعي في سياق اللقاء، وعرف بالباحثين وبمجالات بحثهم.
استهلت المداخلة الأولى للأستاذ عبد الرحيم رجراحي (باحث في الفسفة السياسية)، حيث سلطت الضوء على خصوصية مفهوم الحرية في الفكر المغربي المعاصر، من خلال العودة إلى طرحين فكريين بصما الفكر المغربي وهما: تاريخانية عبد الله العروي، وشخصانية محمد عزيز الحبابي؛ ولعل ما ميز أعمال هذين المفكرين في نظر الباحث هو كونها تعكس تلقيا مغايرا لمفهوم الحرية كما تقرر في الفلسفة الأروبية، وعلى وجه التحديد التصور الليبرالي للحرية؛ ذلك أن الحرية عند عبد الله العروي ليست فحسب مفهوما، وإنما هي أيضا شعار وواقع؛ وهو ما جعله يتجاوز المقاربة الفيلولوجية التي اعتمدها المستشرقين في تأويلهم للفكر العربي الإسلامي، والتي تؤول إلى أن هذا الفكر لم يعرف قط مفهوم الحرية؛ والحال أن الحرية في الفكر العربي الإسلامي لا تنحصر في القاموس فحسب، وإنما هي تحضر بوصفها أدلوجة متعددة التجليات؛ إذ إنها تظهر في مجال التصوف، وفي تجربة التقوى، وفي ظاهرة البداوة، فضلا عن القبيلة بوصفها تنظما اجتماعيا ميز المجال العربي الإسلامي؛ كما أن محمد عزيز الحبابي ينتقد بدوره الطرح الشخصاني الكلاسيكي للحرية، والذي يحصرها في كونها تجربة فردية؛ وهو ما تجلى في إسهامات إيمانويل مونييه وجون لاكروا وهنري بركسون؛ والحال أن محمد عزيز الحبابي يعتبر أن الحرية في جوهرها عملية تحرر متعددة الأبعاد، حيث إنها يتداخل فيها الفردي بالجماعي، والكينونة بالعندية، مثلما يتداخل فيها التاريخي بالسياسي بالنفسي والاجتماعي؛ وهو ما جعل محمد عزيز الحبابي في نظر الباحث يؤسس لشخصانية واقعية تأخذ في الحسبان رهانات التاريخ، وهموم المجتمع.
أما مداخلة الباحث في الفلسفة السياسية والاجتماعية مصطفى إنشاء الله؛ فقد اختارت طرق التوتر بين الحرية والحتمية في علوم الاجتماعية، وعنوان مداخلته "بارادايغم الحتمية في العلوم الاجتماعية: علم الاجتماع مثالاً"، يُحيل على إعمال مقاربة إبيستيمولوجيّة تنظر في مدى تأثير علم الاجتماع، كتخصص معرفي يسعى إلى كشف القوانين المتحكم في الظواهر الاجتماعيّة وفهمها وتفسيرها، على اعتماد تصوّر للظاهرة الإنسانية يميل إلى الحتمية أكثر من تبني اتجاهات تحتفل بالإرادة الحرة وفاعلية الفرد. وقد عرض لأهم النماذج السوسيولوجية، سواء الكلاسيكية، مع أوغيست كونت وإيميل دوركايم، وماكس فيبر، أو من السوسيولوجيا المعاصرة، مع بيير بورديو أو ريمون بودون، فضلا عن تعريجه على المدارس السوسيولوجية الرئيسة: من بنيوية ووظيفية وتفاعلية رمزية. خلاصة مداخلته أن وسم الحتمية طغى على المقاربات السوسيوولجية، سواء في لحطتها الكلاسيكية أو المعاصرة، ورغم محاولات ماكس فيبر والتفاعلية الرمزية، أو استعادة ريمون بودون لماكس فيبر، لإضفاء وسم الفاعلية وحرية الإرادة لدى الفاعلين الاجتماعيين.
أما مداخلة الباحث في التاريخ والمهتم بقضايا الخطاب الديني المعاصر الأستاذ عبد الواحد بنعضرا حملت عنوان: "الحرية والدولة والحاجة إلى التربية الوطنية". وتساءل بنعضرا في البداية: ما هي العلاقة بين الحرية والقانون؟ وأيهما أكثر انخراطا في الحداثة خرق القانون بدعوى "الحق الطبيعي" أو الشرع الديني؟ أم احترام القانون والخضوع له حتى لو كان متعسفا والنضال بالطرق المسموح بها لتغييره دون خرقه؟ وبمعنى آخر لماذا لدينا علاقة تخارج بين الحرية والدولة؟
موضحا أن المشكلة التي عانينا منها خلال القرن الماضي وبداية القرن الحالي ومنذ بروز حركة الإخوان المسلمين بمصر.. هو وجود إطار جديد (دولة حديثة) ومحاولة البعض ملئه بمضمون أغلبه متناسب مع الشكل التقليدي للدولة القروسطية أو مع لا دولة الخلافة.. فلم يستوعب البعض منا من أصحاب الخطاب الديني المعاصر إمكان ممارسة حريته داخل الدولة دون أن يكون في وضع متناقض مع تدينه؛ أي اتفاق الحرية مع الإرادة الجماعية المتجسدة في الدولة. فأخطر ما كرسه الخطاب الديني المعاصر، حسب الأستاذ بنعضرا، ونحن في زمن الدولة الحديثة هو التخارج بين الفرد والدولة، التخارج بين الحرية والدولة، كما نبّه على ذلك الأستاذ عبد الله العروي في ما كتبه عن مفهوم الدولة ومفهوم الحرية، ومن ثم وسْم الدولة بالشر ما يسهل نزع الشرعية عنها وإضعافها؛ وفتح الباب مشرعا أمام الفوضى. فالأخلاق عند الخطاب الديني المعاصر، مرتبطة بالفرد، أكثر من ارتباطها بالمجتمع والدولة... وبالتالي فالشاب المتخلق بالأخلاق المعيارية كما رسمها الخطاب الديني المعاصر لا يملك أي مسؤولية تجاه أعضاء المجتمع الآخرين ولا تجاه الدولة وبالتالي لا يملك حس المسؤولية تجاه المستقبل.
وأشار الأستاذ بنعضرا في مداخلته إلى أن الأستاذ عبد الله العروي من خلال دراسته لطبيعة الدولة خلص إلى أن العلاقة بين الفرد والدولة أو الحرية والدولة في العالم العربي ــ الإسلامي، تميزت بالانفصام؛ بذرت بذرتها المنظومة الفقهية والفلسفية والصوفية قديما، وكرستها اليوم التيارات الغربية من ليبرالية مرورا بالوجودية وصولا إلى الماركسية كما مورست في أرضنا. والحال كذلك، كيف يمكن للدولة أن تكون قوية، أن تقف في وجه الرهانات الدولية، أن تواجه خصومها إذا لم تكن على ثقة أن أفرادها وراءها لا يخذلونها؟
في ختام مداخلته تقدم الأستاذ بنعضرا ببعض الملاحظات استشرافا للمستقيل من أهمها تنبيهه على أن من الأخطاء المرتكبة من قِبل بعض التيارات السياسية الحاملة للقيم الإنسانية طرحها قضايا غير ذات بال بالنسبة للمجتمع ولا تشكل هاجسا ولا تحمل منفعة للدولة، فقط من منطلق حقوقوي، محرجة الدولة من جهة ومقحمة نفسها في الوسط بين المجتمع والفقهاء.
شهد اللقاء نقاشا تفاعليا غنيا بين المشاركين، حيث تطرقت التعقيبات إلى الإشكالات الفلسفية والسياسية والاجتماعية المرتبطة بمفهوم الحرية، ومدى تأثيرها على بناء الدولة الحديثة. في الختام، تم التأكيد على ضرورة استمرار البحث والنقاش حول الحرية في علاقتها بالدولة، والقانون، والمجتمع، والتربية، من أجل بلورة رؤية نقدية تعزز الحداثة السياسية في السياق العربي.