معتصم حمادة
عضو المكتب السياسي
للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
■ تاريخنا الفلسطيني حافل بالمناسبات والوقائع و«التواريخ» ذات المغزى النضالي المشرف، لشعب تحدى الزمان، وتحدى الجغرافيا، وتحدى الأقوى في العالم، من الإستعمار الغربي في العشرينيات من القرن الماضي إلى الإستعمار الأميركي، وفي قلب هذا كله المشروع الصهيوني، وما زال حتى اللحظة يقاوم ويقينه أنه لا بد منتصر على أعدائه.
تاريخنا حافل بالمحطات التي لا يمكن للتاريخ أن يتخطاها أو يتجاهلها، منها على سبيل المثال لا الحصر، معركة الكرامة، ومقاومة الغزو الإسرائيلي للبنان في عدة جولات أهمها غزو 1982، فضلاً عن المئات من العمليات الفدائية الكبرى، والتي زلزلت أركان العدو، وأصابته بالذهول والارتباك، بل بالشلل، وآخرها (حتى الآن) المعركة الأسطورية المسماة «طوفان الأقصى»، انتقل من هذه المقدمة القصيرة لأعبر عن خشيتي، لا عن مستقبل القضية الفلسطينية فحسب، بل وكذلك عن «تاريخها»، أي بتعبير آخر، خشيتي أن يكتب تاريخ مزور للقضية، ينسجم مع الأجواء السائدة في الدوائر السياسية الرسمية في السلطة الفلسطينية.
فبعد الدعوة إلى تسليم سلاح المقاومة لدولة الاحتلال، وإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين مجاناً، ودون أي مقابل، ووقف كل أشكال المقاومة «غير السلمية»، بدعوى درء الذرائع، إندلقت كميات من الحبر على صفحات الصحف، واندلقت تصريحات عديدة على شاشات الفضائيات، تكشف عن وجهها، لا تكتفي بأن تردد الدعوة إلى تلك القضيتين (السلاح والأسرى)، بل بدأت تعلن الإنحياز إلى الجانب الأميركي، وكأن ترامب أصبح هو المنقذ للحالة العربية والحالة الفلسطينية، في إستجابة لدعاو سبق وأن طرحت في زمن البترودولار، تقترح أن تُزاحم إسرائيل في التقرب من الولايات المتحدة والتحالف معها، وأن تقدم للولايات المتحدة ما يخدم مصالها، لتكون بديلاً لإسرائيل، وهكذا نكون قد رسمنا حلاً للصراع في المنطقة.
الأجواء ذاتها تعود الآن في الصحافة الفلسطينية والعربية، وعلى شاشات الفضائيات الأكثر شهرة عربياً، وبالتالي نحن نقف أمام تيار، يريد أن يرث المنطقة، بالإعتماد على نتائج الحرب في لبنان، والشروط الأميركية المطلوبة من دمشق لرفع «العقوبات» عنها، وفي رهان على سقوط خيار المقاومة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وانتصار خيار «المقاومة السلمية» وخيار التملق للولايات المتحدة، والبحث عن تقاطعات مع السياسات الإسرائيلية، خاصة الجانب الأمني ضد «الإرهاب» الفلسطيني، وضد البندقية المتمردة على شعار «سلطة واحدة – قانون واحد – بندقية واحدة» (وهذا شعار سنعرض له في مقال آخر لمناقشته).
في ظل هذه الأجواء، أتخوف أن يشمّر البعض عن ذراعيه ويدعو لـ«تنظيف» التاريخ الفلسطيني، و«تنقيته» من المحطات التي تنطبق عليها المواصفات الأميركية للإرهاب.
بعد أن بدأت وكالة «وفا» للأنباء تصف رجال المقاومة بالمسلحين، وبعد أن تحولت الحقوق الوطنية والإنسانية والمعنوية للأسرى والشهداء والجرحى وعوائلهم إلى حالات عسر شديدة تدير شؤونها هيئات محلية، مقابل تحلل السلطة الفلسطينية من واجباتها نحوها نزولاً عند الإشتراطات والضغوط الإسرائيلية والأميركية.
تحلل من الأسرى باعتبارهم أسرى إرهاب، ومن الشهداء باعتبارها شهداء إرهاب، والجرحى باعتبارهم جرحى إرهاب.
فمن الذي يضمن لي أن لا تقدم الجهات المعنية على إعادة تسمية بعض المناسبات والمحطات بغير أسمائها، منها على سبيل المثال:
• أن معركة الكرامة هي بين إسرائيل والجيش الأردني مقابل شطب أي ذكر للدور البطولي للمقاومة فيها، بما يعتم على دور بندقية المقاومة في صناعة التاريخ.
• أن يعاد تسمية «يوم الشهيد الفلسطيني» بـ«يوم الموتى» حتى لا تخدش كلمة أسير بمضمونها النضالي المعروف مشاعر واشنطن وتل أبيب.
• وأن يعاد تسمية «يوم الأسير» بـ«يوم المساجين» أو الموقوفين، وهل يكون المجلس المركزي الأخير هو آخر مجلس يشير إلى «أسرانا الأبطال».
أو ربما للتهرب من هذا «لإحراج» التوقف عن اعتبار يومي الأسير والشهيد يومين تحتفل بهما الدولة الفلسطينية وم. ت. ف.
قد يصف البعض تخوفاتي مبالغة في التقدير، لكن من كان منا يتوقع أن تطالب المقاومة بتسليم أسراها الإسرائيليين إلى العدو مجاناً.
ومن كان منا يتوقع أن تدعى المقاومة إلى تسليم سلاحها مجاناً لإسرائيل؟
ومن كان يتوقع أن يتقدم حزب فلسطيني باقتراح وقف القتال ضد إسرائيل، باعتبار أن المقاومة أصبحت عبئاً على الشعب الفلسطيني، وكيف للمجلس المركزي الأخير أن يبرر إرتداده عن قرار المجلس (31) في تأكيده على المقاومة الشعبية الشاملة بكل «أشكالها» لصالح ما يسمى بـ«المقاومة الشعبية السلمية»، خاصة وأن أصحاب هذه الدعوة الملفقة لم يقدموا لنا حتى الآن تعريفاً لمفهوم «المقاومة السلمية» وكيف تكون، وما هي خلفياتها.
علينا أن نحسب حساباتنا السياسية بدقة أكثر، وأن ندقق في الأحداث والوقائع والتصريحات بحذر أكبر، حتى لا نفاجأ، وحتى لا تداهمنا المفاجأة من حيث لا ندري.
يقولون إن وراء الأكمة ما وراءها.
وأنا أقول ما وراء الأكمة هو الهبوط إلى الحضيض ■