المخرج بين لعبة الجسد النصي، و الجسد الركحي

 

تتنوع القراءات حول الجسد و دلالته، من منهج إلى منهج و من ثقافة إلى ثقافة، و تعدو كيانا رمزيا، و طقسا يصعب تحديد ولادته في الموسوعات التاريخية، و النفسية و الأنتروبولوجية، فهذا التنوع الجواني، جعل المخرج يتفنن في هذا التوظيف، و في هذه الممارسة الركحية، عارضا براعته الفنية التي تتم و تأسس عن قوة إبداعية غير مألوفة منذ بدايته التمسرحية، و لكن كيف وظف حسن العلوي هذا الجسد الركحي بجانب الأجساد المؤقتة؟ و ما هي هذه العتبات و الامتدادات الفنية و الجمالية و الإخراجية لهذا الجسد الركحي؟ تبعا لسنة التطور و قانون الممارسة الإبداعية، فإن المخرج لم يقف عند عتبة جسد النص و لا جسد الممثل، بل عمل على الانفصال الظاهري بغية الولوج بالأصل / الغائب أي (الفني و التطبيقي) ولوج إلى الكل، بوصفه الجواهر الذي يحتوي على شيء، إنه الغياب و الحضور الذي يظهر كل شيء عن ماهيته و حضوره حسب تعبير جاك ديريدا1. و هذا التفكير الإجرائي هو إعلان عن اللامفكر فيه الذي يظهر كوسيط بين النص و الجسد، و بين الفهم و الإيقاع، مما يجعل الأنا / المبدعة أن تنكب لتأسيس المعنى و ليجعلها تعرف ماهيتها بصياغة جديدة، لأن جسد الممثل يبقى كمعطى يرتبط بين الصوت و المعنى، و الإدراك و المعرفة، لكن هذا التمسرح الجسدي يبعثر بين هذه الثنائية، ليخلق داخل الجسد الممثل أنوية تمثيلية لا تنتهي للمعنى الواقع، بل تضع اللغة غير بعيدة عن المعرفة الجسدية، لأن توجه الكتابة الجسدية عند حسن العلوي نحو انزياحات و استعارات رمزية مما يؤدي به إلى تفكيك الحقيقة الجسدية الثابتة، و بالتالي التفكير في الجسد خارج الاستعارة الموظفة التي لا تسمح لنفسها أن تتحكم بها و فيها إلا بواسطة اللغة الدرامية، لأن التحويل المضاعف لهذا الجسد، هو قلب التراتب المعجمي، لكونه يقع وراء التميزات التي تجعل الآتي يحل محل الجسد، و هذا ما نجده في مسرحية (خطانو) و أساطير معاصرة، من خلال اختياره لعناوين المسرحية، فتأسيس البعد الكوليكرافي لهذا الجسد هو تواصل لإزاحة قوة المركز، مع رصد الجسد و هو ينقذ من ستار اللغة، و الإيماءة، ليكون ظاهرة كوانتمية التي تزاوج بين سطوة السياق التعبيري و سرمدية التأريخ المسرحي، فالجسد الدرامي يمتلك وحدة مع الأجساد الأخرى لتكون جزءا من النص الممسرح من جهة أخرى، لأن الجسد حسب المخرج يحاول إعادة قراءة الجسد السائد على الأخلاق، و التربية، كما أنه يسعى لتأسيس ذاكرة في المشهد الركحي، و يعتمد الإيحالات الرمزية على شكل أقنعة لتأثيث دلالة معجمية جسدية، فيما تعتمد نصوص المخرج على ذاكرة الجسد المضاعف الذي يساير أصوله حسب أصول ذوقه، ما يجعله نصا مضاعفا و مفارقا لانتهاءه الرمزي و العلاماتي، باستمرار و غير منتسب لنفسه. و بالرغم من أنه ينكر الأصل لكونه يمتلك وجودا باطنيا، لأن وجود الكتابة الجسدية في المسرحيات الممسرحة تعطي أصالتها الطبيعية، و وجودها الأنتروبولوجي الخارجي، لتظهر في شكل أخيلة و رمزية، و تسعى إلى وضع طروحات و مفاهيم غير خاضعة للتحديد و لا التعيين، معتمدة على الخيال كطقس كوليغرافي يؤثث المشهد الجمالي و الانفعالي الباطني، إن تراسل الحواس هي ترتيبات لفظية و عناية دلالية يكون فيها الجسد المضاعف (الجسد داخل الجسد) علة وجودية، و غائية تثري الفعل المقصدي على المستوى الإمتاع و اللذة حيث لا نجد لها حضوره قارا و تمثلا مركزيا كما في مسرحيات "رحلة الخلاص"، و "لعبة الحرية"، و "ليام آليام و الكود"، فهذه المسرحيات رغم تنوعها في الصيغة و في المنهج، فإن الوجود الجسدي يبقى في انفتاح تام على الرؤيا، و خرقا للمشروع الكلاسيكي الأرسطي، و متجاوزا الوضعية الاندماجية للخروج من وضعية الجسد المقيد، ليؤسس جسدا متحررا من حدوده ويقظة ايروتيكية، ليتشكل فيها النص كإحالة نصية و تركيبية حوارية، و انعكاس غير مرتبط، و لغة تنشد الكمال و التوجد بالأصل، و كذا الغوض في خلق مسافة ابتغاء لهدم الذوق، و الأحكام القيمية، لنشدان الشيزوفيرنية، و لتكون كائن في لا زمني و لا شخصي في الزمكان، و لتكون أيضا لغة لا دينامية زمنية التي تفوض أي تمركز حول الجسد المتعالي فهذا التصور الجسدي هو منطق ما بعد الجسد الحداثي، لأنه بنية لغوية مؤلفة من حركة و فعل و ممارسة و تواصل يغدو معها الجسد كائنا لا زمنيا كما ذكرت في مسرحيات المذكورة.
إن الجسد في هذه المسرحيات لا يقر بالنهاية و لا بالغاية، بل يمدنا بقراءة مفتوحة، ابتغاء هدم رسائل المرتبطة بالذاكرة و بالمعنى، لأن للجسد المضاعف إقامته الطقسية مواجهة الطرائق البلاغية و النحو المتوهم. جسد يصنع المعاني اللامتناهية في شكل تمفصلات بين الكتابة و الأنا، لتكون مفهوما غير عياديا بمفهوم ميشل فوكو للعيادة، فالمخرج حسن العلوي يرى أن جسد الممثل رقم1 و رقم2 و رقم3 لا زمني يفتقد الهوية الطبيعية، ليرسم للزمن الإبداعي رؤيته بلغة درامية تقوض هذا المركز و هذا المعطى، و لتغدو كتابة ركحية في كينونتها، و تعاليا في سكونها و كمالها، لأن العلاقة بين الكتابة و الجسدية، و الرؤية الفرجوية هي علاقة انتروبولوجية لا منطقية للكتابة الإبداعية2.
إن هذا الفصل و الوصل تجاوز يقع ضمن الماقبل و المابعد، يكسب لهذا الجسد اتصاله الكينوني، و كليته الاجتماعية و النفسية و الفرجوية، و هذا نوع من المغايرة المبنى على الاختلاف و التنوع، لكونه فعل الممسرح المضاعف، فالكتابة الجسدية كائن جماعي، لا تتأسس إلا بالممارسة البصرية و بالاحتمال و الممكن، و التنوع القرائي البصري و النذري، يسكن أجساد المسرحيات المذكورة، و يعطي لرؤية المخرج تجول فوق السائد والجمود، و الانقطاع النصي و التشابه، لأن الاختلاف يلغي المطابقة و المحاكاة، و المصالحة، و التوافق الطبيعي، فبدون المغايرة المضاعفة لا يوجد جسد مؤدلج، و مقنع، و متمرد، يكون هو الأشمل و الأمثل في كل تخريجات المخرج حسن العلوي، لأن فهم هذا التحول يكمن في الاستعداد القبلي، و في التوجيه القرائي كعتبات خارجية (النص – العنوان – صاحب النص – الصور – الجسد – الألوان – اللغة...) التي تتغير في المتغير نفسه، لتكون كوليكرافية جديدة الحاوية لهذه العملية التأويلية، و قد عملت الكتابة الجسدية من أن تكون عنوانا خصبا، قابلا أن يستوعب كل الشرائط الخارجية للجسد، و الداخلية أيضا، و لطرح السؤال التالي، كيف تعامل المخرج مع هذا الجسد؟ سؤال فيضي يفلت من كل تعريف براني (سطحي) ليكون علامة غريبة عن النهائي والثابت، حاملا قراءة مفاهيمية تضع لهذا الجسد منطقا كونيا، فتوليداته للجسد تتسم بالتخطي الخطي (بداية – وسط – نهاية) لتضعنا أمام فعل الأثر الجسد الطبيعي الذي لا يؤسس الاختزال، و الاقتصاد اللغوي. بل يبني رؤيته الركحية بواسطة توظيفات ايحائية و رمزية، و لغوية، و موسيقية، و إحساسية، حتما يجعل المتفرج يلج هذا العالم الممكن، غير العالم الذي ألفه.
كلما اقتربنا من تشكيلته الفنية و الإخراجية إلا و أدركنا أن الخصائص الجمالية و الإبداعية الركحية، تكون هي المعادل الموضوعي للأثر الجسدي، و البنية العمودية التي تتلاءم مع البنية التحتية كجدلية غير سلطوية، و هذا ما دفع حسن العلوي إلى إيجاد طريقة لا يساوي فيه الجسد، بل ليكون توليدا لإفرازات كوانتية التي لا تدعي الحكم التعالي، بل تتحول إلى وظائف سردية و كتابة شعرية و خضور ايقاعي موجه إلى شعور الممثل الداخلي. إن الكتابة الجسدية هو قانون جديد، و صوت آت من التوليد و التجربة، و روح موصولة باللغة و الملابس و الإثارة و الموسيقى، و تمركز حول التعدد، و إشارات عرفية و ايمائية التي صارت تدعي لنفسها حق الشرعية في الاختلاف، و المقصدية (الإبداعية) الفرجوية.
إنها إشارات لا تدعي لنفسها حق التملك الباطني، و لا تمارس دور السيادة على جسد الممثل، بل تتحول إلى لعبة غير إلزامية، و إلى قوة غير متعالية، و كتابة مسكونة بالإقرار، ينعدم فيها وجود الجسد الطبيعي كما ذكرت، و ليسود الانفصام ليس بالمفهوم (النفسي الإكلينيكي) بل ككيان مقسم إلى أنوية بكل جهازها المفاهيمي و من خلال التماسك و البناء.
فحضور الجسد الكوليكرافي، و الايمائي، و البوحي، و الميتولوجيا البيضاء3 في هذه المسرحيات المذكورة، جعلت الجسد المسرحي إسهاما جماهيريا، يحاكم الواقع المطمئن بواقع يقوض التسلط الرجعي، و الإمبريالي العالمي و هذا ما نراه في مسرحية أيفا رجعة الملاصي، و الساروت، حيث يمثل الجسد دورة نقدية تؤهله لكي يكون كرنفالي و أداة و حالة و لعبا مقنعا و عالما عجائبيا و غير تناسكيا4 كل هذا يؤهل المخرج ليكون الممثل هو جسد للفرجة و للتعرية السوسيولوجية، تبحث في أيفات عالق الممثل بالمجتمع، و عن كيفية احتفائه من لدن التحولات السيكنولوجيا، و الجمالية كما في مسرحية الكود.
فبهذه المسرحيات هي لعبة يتحول فيها الواقع إلى أقنعة إبداعية، تؤسسها اللغة الإيروسية كتجربة فكرية حقيقية، يقرأ فيها الجسد كقناع يعرض كتلاحق اللوحات التي لا تشرع و لا تفسر المضمون، بل يخترقها الحكم و الفكر انطلاقا من جدار الواقع الصامت، و هذا الطابع الايحائي يتشكل في صور متلاحقة، يجيب على الأساسي و عن المناطق العذراء في تفاصيل الجسد، مما جعل جسد الشخصيات تنتقل من القلق إلى النشوة De l’angoise à lextase، ليضع التسامي دون العودة إلى اللاواعي الفرويدي، لأن جانبه الفعلي (الرجل) يغوص مكان مقولة الشعور الباطن5. فرفع القناع حول الإنسان، هو إلغاء حيز الانبثاق العقلاني، و بروز الشهوة و الإشباع التتي تترجم الحرمان و القلق، فيغدو الجسد الأنثوي يفكر ضد ذاته، مستحضرا منطق الواقع الذي شوه خلقته و حلمه، دون أن يعيد له ولادة المغتصبة، فكبله بالأشكال الممسرحة اللامنطقية التي تسكن واقعنا العربي، لأن عملية الكتابة الجسدية ولدت فجوات في الخطاب اللغوي الناتج عن انزلاق المدلول على الدال، و عن تطايق الرؤية الأنثوية مع الرؤية الاجتماعية.
ما يثير اهتمامي أن ما صنعه المخرج، هو إظهار الواقع بعفوية عن الجنس، و الدعارة، و الموت الباطني، و التهميش من دون التفكير في ذواتنا، ما دمنا نستخدم هذه المفاهيم في واقعنا، و بطريقة تعادلية بين عالم الأشياء وعالم الكلمات و كما أن الرؤية الضمنية في الخطاب، ينطبق تماما على نظام الواقع في بداية هذا التحليل الممتد، كمرجع كمنهج فكري مبني على قاعدة نظرية و كآلية التي ترفع الرقابة على الجسد من قبل العقل الواعي، فاتحا لنهاية الحلم و الخيال، هذا الانفجار لكلية الحقيقة التي تواضعنا عليها هو إنكار للحضور المطلق للجسد الآخر الذي يتمتع محتواه بحضور قيمي و هيمني، يريد أن يعيش اللحظات غير الحاضرة في الواقع، و ليكون بداية حقيقية حول الرغبة و الصحوة المثالية، و كشف و اكتشاف لهذا الجسد المتعالي إنه جسد يحقق كينونته بتكسير أقضية اللغة، لتأسيس حقيقة المجتمع السلطوي الذي يقبع تحت هيمنة الفحولة فحقيقة مسرحية "الكود" و "الساروت" هما ارتداد على مقولات تمثل وعيا داخل الجسد، الذي لا يتطابق مع معناه المضاعف، إنه جسد الممثل الطبيعي و جسد الممثل و جسد الشخصية، و هذا التعيين ينطلق من الطبيعي في حالة البقاء، إلى حالة يكون فيه هو الذي يمتلك اللغة و يسكنها قبل أن تسكنه، و يعلن حضوره من خلال جدل، يتجاوز النفي المطلق للوصول إلى لحظة المتعة و اللذة، لحظة غير متناهية يلتقي فيها جسد الممثل بالوجود الممكن و في لحظة التأويل الركح، فيبقى هذا الجسد الأيقوني رهين الخيال الذي يتمسرح أثناء الإخراج.
يتناول حسن العلوي هذه اللغة المجازية لتكون بنية جسدية نصية، تولد لنا انزياحات بلاغية و فعالية في النص الممسرح، و لتعيد لهذا الجسد أداته الاستكشافية، يفتح عبره بياضات لتتجاوز المثل العليا و غموض المعنى، ولتنزيل الإنسان ليصبح درة ضمن الدرات المتشابكة و المنفصلة، و هذه الذات اللاتلازمية بينه و بين تجلياته تحتفظ بالمغايرة، من هنا تنشأ الاتسوية المتشظية بين الوحدة و التعدد، و العرض و الجوهر، و تثبيت لمرجعية متنوعة، و خلق و تخصيب ذاتي لفعل الكتابة الجسدية، و يأتي الاختلاف حسب المخرج ليصير فعالية لا تكتس الخارج الواقع / بل تصدع كل البنى المهيمنة (النصية)، لأن التخطي "النسيان" الأنطولوجي" النصي هو تبعثر لقوى الذاكرة المتعالية، فيحصل فعل التمسرح الجسدي بمتعة منورة من سلطة المعجم و التمركز بالمعنى الفرداني، لزرع الشك في يقينه و ذاكرته، حيث يعمل النسيان المؤجل وفق منطق احتمالي شكي، يقيم لتاريخ الجسد تحويلات آلية منبثقة من الصورة و الكلمة و الحركة، فيغذو الجسد المتعالي نصا آخر، يستعير آلياته الاستعارية المزدوجة، لكسر المفاهيم الواقعية المتراتبة، دون السقوط في ميتافيزيقيا الحضور، فإنتاج هذه المسرحيات هي استعادة للخطابات التي لا تتبنى على مقولات نظامية أرسطية (معنى – حقيقة – كلية – مقصدية – جوهر...) بل هي انفتاح على اللذة ضد المنطق، و التواصل الجواني ضد البراني، و غياب ضد الحضور، و الهامش، ضد المركز.
فحسن العلوي في تمظهراته الإخراجية لا يفكر في الكتابة تحت سقف الذات، بل يظل مرتبطا بأمراس الوعي التجريبي، لأنه يخضع لضرورة اللعبة التمسرحية، يرتحل من جهة إلى جهة أخرى و من منهج إلى منهج بغية الارتباط بالغربة الفرجوية التي تجعل المتفرج يزج به في اللعبة، بل أيضا يفكك الأصول و الأسماء، و العناوين ليواكب الإبداعات الظاهرة و الباطنة، و ذلك تحت وطأة التأويل و التفسير و هذا ما دفعنا إلى البحث عن الامتدادات الركحية و المشكلة مع الذاكرة النقد التي تجعل رؤية المخرج تمتد عبر التأويل اللامتناهي، ما يجعل التنوع هو الفكر الذي يتسم بالشيوع و الانتشار، و هذه الرحلة كما قلت في شدة المسرحيات هي اقتراب من التجريب و الانفتاح على الجسد بواسطة الجسد، فالمفرد "الجسد" هو لحظة طبيعية لكن في ماهيته يحضر الجسد المميز، لأن القناع و التقمص، و الإمارة، أبدعت لنا شعرية التي هي باعثا على رؤية الجسد المضاعف، لأن المسرح هو إبداع جمالي، و عملية تذوقية فرجوية، معنى ذلك أنه خاضع للتأويل قصد الوصول إلى المبتغى التأملي النقدي، فهذا القول يذهب إليه المخرج حسن العلوي ليؤسس لعلاقة جدلية بين الشخصية الجسد / و المتفرج المؤول لهذا الجسد، و هذا التبلور دفعه إلى طرح السؤال التالي كيف يتلذذ الممثل بجسده؟ هل يندمج فيه أم يخلق مسافة بينه و بين هذا الجسد المشخص؟ و كيف يجد نفسه بعين الكتابة و القراءة الرقمية؟ هل لهذا التعالق الجسدي منطقا خاصا لا يلتزم بالنص؟ إذا كان تلقي الجسد أي جسد مضاعف، متغير باستمرار، لأنه طريقة إنتاجية تتحول و تتلون وفق منطق المخرج، كما أن المتفرج لا ينطلق من نقطة الصفر، فهو يهتم بتوسيع خياله الذوقي، والمعرفي، و يطور أدواته المنهجية بشكل عقلاني و التي يمكنه من الكشف عن عناصر مضمرة داخل الجسد.
إن هذا في نظري تحول جوهري في مركزية التأويل، أو الجسد الذي مزق من الممثل الطبيعي، و وضع نارا و قادة و حارقة في متخيل المتلقي أو المتفرج، بحيث صار هذا الجسد الركحي مبعثرا (بمفهوم ديريدا) على وجه الفضاء، و بين ثناياه و في فجواته و التواءاته، و صار المخرج بدوره قارئا لهذا الجسد، ليملأ هذه الفراغات وصولا إلى استجلاء معانيه الضمنية التي ينطوي عليها، و التي يعطي وزنا و دلالة، و تخصيبا له كما يراه إيزر6. هكذا فكل جسد بلا متفرج هو نص مغلق، فبحضوره يتم التعاون لكسر المسافة بينهما، لأنه يتضمن الاتحاد بين كليهما في عملية التذليل الصعوبات الانتمائية و التأويلية، لأن المتلقي أو المتفرج المتضمن ينسج دلالة جسدية، انطلاقا من فهمه و إبداعيته له، إذ لا مجال لفهم جسده كنص إلا بواسطة شروط التي تستند إلى بنية تأويلية تفكك أواصر الجسد المؤول، و يرى بيترزوشدي في هذا المقام "ولا مجال للتأويل إذا لم تسبقه قراءة ذوقية، ينتبه عبرها المتلقي إلى موطن الخلق الأسلوبي و التجاوز النصي"7.
إن هذه الدياليكتيكية التأملية بالغة الأهمية بالنسبة لكل جوانب فلسفة المخرج، و بناء عليه فالدياليكتيك ليس مجرد سمة من سمات القراءة البسيطة، و لكنه يشكل أيضا تحول الجسد من العالم المادي، إلى العالم المجرد و المحسوس، و هذا التراسل الحواسي هو نظام فلسفي سردرامي، قادر على فهم العلاقات بين مجالات التجربة المتنوعة في مسرحيات كموز و تفاح، لكارلوس فونيطس، و لعبة الحرية لمروزيك، إن هذه المعادلة بين العقلانية الركحية و الواقع الجوهري في بناء المخرج للتقدم التاريخي المسرحي بوصفه حركية جدلية، و كذلك أساسي في جوهره، لأن حركة هذه الجدلية هي في كينونتها تاريخية في مضمونها.
فالمخرج حسن العلوي في تمسرحاته الركحية، يبرز لنا هذا التأكيد عن طريق وضع الممثل على قدم و ساق مع تطور الواقع، و الروح، و الفكر، لأن تطور الممثل هو عملية واعية ذات وساطة ذاتية، يقدم لنا هذا التحول متتاليا للأجساد، إذ يمنح كل منهم براعة فنية، لتتحرك من ثم بإبراز الواقع الممكن، و بهذا يشكل الجسد عنده نقدا للراهن الثابت، ليخلص هذه الأجساد المقيدة من كل براثين الماضي و لكي تتولى الروح المطهرة كامبراطورية العالم الجديد ليس بالمفهوم المطلق.
إذن يصور المخرج في هذه السلسلة المسرحية المذكورة نوعا من الحركات التكتونية التي تخترق كل المضامين بروح جديدة للاتصال بالواقع، نحو الممكن الذي يحتوي في دواخله كل ما بقي، و ما ترسب في الروح المضمرة، كل هذا تحت رعاية منطق الإخراج، بهذه الطريقة يصبح جسد الممثل سرد التقدم الحتمي، و خاصة عندما تغدو الرغبات الفردية و الجماعية مشمولة بالجدل التأملي، لهذا التاريخ المنبثق من الاتصالات التي تتم عن قوة تأليفية أكثر ما تهم عن قوة يقينية كما ذكرت سالفا.
إن نتيجة هذه المقاربة التمسرحية هي ما يشير إليه المخرج بعقلنة الجسد التجريبي، حيث لا تتطابق أفكارنا مع الواقع الخارجي، كما في مسرحية ليام آليام، فهذه المسرحية هي إظهار التجربة الإنسانية المتمركزة حول الإنسان بدلا من قوة خارجية، لأنها تتعلق بالتدخلات السياسية و الفلسفية و الأخلاقية للنقد الحديث، و هذه الرؤية هي مشروع لم يكتمل بعد، بل ظل تفسيرا، و تحولا مستمرا لمفهوم الجسد في الحقيقة التي يعيش من أجلها، و يفتح ذراعيه لإبداعات المستقبل حسب تعبير (هابرماس). فالمخرج حسن العلوي يهدف دوما إلى تغيير لون النص، و اختيار حدود التمثيل، و اللغة الدرامية، لمواجهة توقعات المتفرجين حول طبيعة هذا التوظيف المسرحي، و هذه الرؤية الطليعية تكشف عن مسافة التوتر التي تنطوي عليها النصوص المسرحية تحديدا من خلال قراءتها و فهمها، و ديناميتها التوليدية، و صولا في النهاية إلى عالم البعد المضمر الذي يظهر على الركح، و بهذا الصنيع يشير المخرج بطريقة غير مباشرة إلى هذا الدور الذي يلعبه الجسد، كونه محقق على نطاق الفعل، لأنه يعيد كتابته و نظمه بنفسه، و عبر فجواته أيضا ليؤنث هذه الجغرافية ليكسبها تحققها الجمالي، و عليه فإن المخرج يستحضر في بحثه عن المعنى المؤجل في النص المسرحي، دون أن يذكر ذلك صراحة، و هذا المؤجل قد يتطابق مع مسافة التوتر كما ذكرت، و من خلال التغيرات التي تسود النص المسرحي و المخرج، يتعامل مع العالم الخارجي تعاملا غير ميكانيكي، ينقلنا من الثابت ليدمجنا في وجودية النص الممسرح، ليصبح فيها المتفرج كذات فاعلة و متفعلة، و يكون المفصل هو الواسطة بين الذات و الأشياء، مؤسسا على الانحراف و العدول كبعد تركيبي و دلالي، حيث يرى في المسرحية المذكورة درجة العدول، مما يخلق تأثرا في بنية الوعي، و عمقا أقرب إلى الفصام الذي يأتي فيه الواقع بسبب انقطاعه عن أي سياق سياسي، قبل جسد الممثل الطبيعي، إذ عمل شحنة قائمة من التأثير يمكن وصفها هنا بشكل سلبي، كقلق الوجود، و القيم، مما يمكن للممثل أن يتصورها إتماما من ناحية إيحائية على شكل نشوة أخاذة جميلة و بعبارة أوضح، فإن تحول الخبرة الجسدية إلى تدفق في التأثير قابل لتبديل، حيث ينتج كل شيء متحول للرؤية التي فقدنا للواقع مرعبة و مقلقة في أنه لم يعد هناك أية أرضية للتجربة التأويلية المغلقة كما في المسرحية الحرية، في هذه المسرحية تستوعب قدرا من الكلام، و أقل مساحة من الزمن الكميائي، أي المعنى و الحدث، و هي ذات إيقاع درامي استطاع المخرج حسن العلوي أن يلتقط أعمق النص بتحولات (صيحة التي لم يجرؤ الكثير على قولها) فتهت الشخصية في وجه الواقع، ثم في وجه السلطة التي لا تقل عن ذلك المشيد، هذا اللون يعكس لدى الشخصيات وعيا فنيا متقدما، تخطى مرحلة العفوية و التلقائية إلى رؤية عالية قادرة على خلق التوازن و الانسجام بين القضية و الفن المسرحي.
و هذا ما نراه أيضا في مسرحية اسمع يا عبد السميع، فهناك شخصيات غريبة عن المكان الذي تشتغل فيه، معتمدة على وضمات الاسترجاع، التي تنزلق إلى الحلم و الشهوة لتفيض من ذاكرتها الحية و اليقضة، و لا تحلم إلا في هذا المكان الذي يخلق لها الدفء و الألفة، و لكن الحلم ليس إلا فضاء تنجز فيه التقابلات و تكرس فيه العزلة و الإقصاء.
إن هذه النزعة تتغيا البحث عن الحقيقة و الحرية في وضع سلطوي متسلطة في هذه المسرحية يحاول المخرج أن يفجر الحكي السردي ليعادل الوحدة و الألفة، و ليبني في الفضاء الركحي كل مكونات اللاتواصل في عالم ينشد التواصل.
فتشكيل فتشكيل الفضاء الركحي هو تشكيل أيقوني متحرك، باعتباره ثنائية ضدية تطبع الشخصية المقيمة في اللامكان و في المكان و لتتحقق الحميمية انطلاقا من الطقس الذي تؤسسه الخشبة و الجمهور، و يقول عبد الكريم برشيد: إن الاحتفالية تقوم على أساس أسبقية الحيوي و العفوي و التلقائي، على النظري و الآلي و المجرد، وبذلك فهي تركد على الآن و ال(نحن)، و ال(هنا)، لأن الاحتفال هو التعبير الجماعي أو الحس الجماعي، فعنها بذلك تسعى إلى الكشف عن الوجه الحقيقي للإنسان و الحياة المدنية، و أن إنسان الإنسان لا يمكن أن يتم إلا بموت الوحش داخل هذا الإنسان8 فهذه التساؤلات حسب المخرج تطرح نفسها كصيغة منهجية، قابلة أن تستوعب كل الشرائط الاجتماعية و الثقافية، و تجعل ثقافة المخرج أرضية مفتوحة على التيارات الأخرى، لأنها تستمد مقوماتها من التراث و من الحداثة و لتجعل موقعها صريحا و مؤصلا في التربة الخصبة. فالبحث في فينومينولوجية المخرج، هو بحث الالتزام و الصدق، و الإحاطة البصرية التي تطرح الفكري و الفني، و الإيديولوجي، كحركة تعتمد التعرية الفنية، و تعمل على تشخيص السياسي و الاجتماعي، لاقتحام أسوار المسرح البديل. رغم العوائق المعرفية التي حاصرته، و هذه القفزة النوعية التي أعلنت عن نفسها كخطاب إبداعي درامي، يحرم تأسيس مسرح يحفل بالعجيب و الغريب و يتماهي مع السياسي و الثقافي، لكن يموضع نفسه ضمن إطار الجنس الإبداعي المتحرك، إنها شخصية شطارة (متحركة) – ذات أبعاد أنطولوجية، تجمع بين التجارب و المقروء، و تقدم نفسها كمبدع و كفنان. و يقول أندريه غرين "هل من الممكن عدم إقامة أية علاقة بين الإنسان و إبداعه، فمن أي قوى يقتات هذا الإبداع إن لم يكن من تلك التي تعمل عند المبدع"9.
فهذا المنحى الاحتفالي جعلت بوصلة لقياس حدود هؤلاء الشخصيات المسرحية، كما رأيت في مسرحية اسمع يا عبد السميع، حيث يضيع عبد السميع حين أصبح قضية، فهو ينتظر أطفالا مع الخامسة، لكن حلمه أكبر من الخيال، فحضور كل ما هو مفزع و مقلق و بشع و قدر (اسمع يا عبد السميع ص9)، فالمخرج ينطلق من قاعدة نظرية و منهجية، مغايرة سواء في فهمه للنص، أو التاريخ أو التراث، فهو من جهة يعتبر الاحتفالي من "أجل أن يصلح العطب و أن يزرع التناسق مكان الفوضى، و أن يوفر الضمانات لأطفاله، و لكل الأطفال الذين ينتظرون الولادة الحقيقية أو الولادة التي يصحبها العيد و تعقبها الطفولة و الأمن و اللعب و الخيال" (ص27) فالمخرج حسن العلوي استوعب النظرية الاحتفالية ليحيل محطاتها سواء في بعدها كحركبة النص، أو بحضور التاريخ والدياليكتيك، أو بفعل الاندماج و التباعد، و الرؤية السوداوية، و البعد الإخراجي و السينوغرافي، كل هذا دفعته ليخالف ما هو سائد على المستوى الكتابة الركحية، ليتيح لذاتيته حرية التعبير عن منطلقاته الفكرية و الجمالية المتحررة، فهذا الموقف تولد في حركيته لا في سكونيته، مما جعل النصوص الممسرحة تتفجر لتعطي لهذا المتفرج هذه المعاصرة لتصبح تجربته تجاوز للزائف، و البحث عن واقع يكون أكثر واقعية، و هذا ما نراه أيضا في مسرحية العين و الموقف، لأن الأساس هو تحقيق التماس و التحام بين بين المسرحية و الجمهور داخل الركح. إنها كتابة سيميائية تحمل رؤاها داخلها، و أن لغتها لا تبتعد عن الأزياء، و الموسيقى و الإنارة، و الألعاب، و الأساطير، يهدف المخرج حسن العلوي إلى إعادة الاعتبار للإنسان و الفن لتكسبه هويته، فتلغي كل مشروع تغريبي يريد أن يفرض ذواته لاحتواء الثقافة و الهوية العربية10.
ظلت الحركة بين النصي و بين الركحي في تاريخ المسرح لأن معايير الجمال الفني كانت مستمدة من القراءة الركحية و من المستوى الدلالي المرئي، و المقنع دون البحث عن الخصوصية ضمن سؤال الهوية الجديدة. و تعد هذه المسرحيات المتنوعة بمثابة ثورة إخراجية.
"وبعد أدبيات (2002 – 2001 و منطلق الطير 2003، و ملك الذهب و أساطير معاصرة 2004 رحلة الخلاص – 2005 – و الزماكريا – 2007 – تمارين في التسامح 2008 – العيب قارئ 2009 و رمز و تفاح 2010) حيث يتشكل هذا التنوع الوظيفي، و التداولي، من مقومات أساسية لهذه المسرحيات و ذلك وفق منهجية تجريبية التي وضعت عادة البديهيات و العناوين في قائمة الخطاب التجريبي، لأن الغرض من هذا الاستعراض و من هذا التعدد، هو الكشف عن شبكات الخطاب المضاعف، و الاستراتيجية التي تشكل نسبية النظام التمسرحي، ومنظوماته من العلاقات و الأنماط الفنية داخل منظومة الركح، هكذا فإن ما يؤكد خطاب المخرج حسن العلوي هو انفراد رؤيته، و إبراز تأثيراته، و هو ما يتأكد وفق جملة من التيمات: كالمعالجة و الديمقراطية، و الديكتاتورية و النرجسية، فهذه الموضوعات تعطي للذات المبدعة فضاءا غير محدود و كل ما تحمله من خطابات التي لا تخضع للمرتكزات المنطقية و لا القيم العلمية، بل خطابات اتخذت الوعي الجمعي، لمحاكمة الوعي الفردي المتمركز حول الحقيقة التقليدية، و التقابلية، دون زرع التعارض بين حيوية الديمقراطية الغربية، و بين الديكتاتورية العربية، فالمخرج في لعبته الإيحائية و الإحالية، جعلت هذه المسرحية تكشف عن هذا السقوط الاستعاري والرمزي قبل السقوط الحقيقي.

 

 

 

المراجع:
1- جاك ديريدا، "التفكيكية النظرية و التطبيق، ص35 – 36، و الكتابة و الاختلاف، ص138 – 139.
2- محمد جمال باروت، "في منطق ما بعد الحداثة"، مجلة الكرمل،1997، ص52 – 53.
3- الميتولوجيا البيضاء: يستهدف تحديد الخط الكلي و الشمولي للتفكير، "معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة"، ص207.
4- جينيالوجيا الجنس المسرحي العربي، محمد معزوز، دبلوم الدراسات العليا 1995/1996، إشراف حسن المييعي، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، رسالة مرقونة.
5- إليزابيت رودنسون، تاريخ علم السيكولوجيا في فرنسا، دار النشر رامسي 1986 – 1982، ج1، ص244.
6- إيرز فولفغانغ، التفاعل بين النص و القارئ، تر: الجيلالي المدية، مجلة دراسات سيميائية أدبية لسانية، العدد7، 1992، ص10.
7- د. عبد الفتاح أحمد يوسف، "استراتيجيات القراءة في النقد الثقافي"، مجلة عالم الفكر، الكويت، ع1، مج36، يونيو – سبتمبر2007، ص166.
8-برشيد عبد الكريم، أرض مغازلة الجمهور، المحلق الثقافي الأسبوعي رسالة الأمة، ع4 – 23، أكتوبر 1983، ص4.
9- مدخل إلى مناهج النقد أدبي، سلسلة عالم المعرفة، تأليف مجموعة من الكتاب، ترجمة رضوان ظاظا، م دا المنصف الشنوفي، مايو 1997، ص95.
10- عبد الرحمان بن زيدان، "قضايا التنظير للمسرح العربي"، ص289.

 

نداء الوطن