أين السماء

وفاء نصر شهاب الدين

 

قصة

وفاء شهاب الدين

مصر

همس بصوته الدافيء قائلاً" اشتقت إليكِ متى تعودين؟"

ارتجفت لهمساته موجات الأثير ولم تسكن إلا حينما أجابت" شوقي إليك فاق الحد ..لكنني لا أدري متى أعود فأمري مرهون به..

قال بضعف غريب"أريد أن أراكِ قبل أن أموت ..يا مملكتي..

ردت" لا تذكر الموت أمامي فذاك يشعرني أنك بشر..

قال:ــ تذكري دوماً أنني أحبكِ..

قالت:ــ ومن يحبك بهذا الكون أكثر مني ؟

خرس الهاتف فانقبض قلبها فلم يختم حديثه لها كعادته بـ" إلى لقاء"، تناست رعشات انتابتها حين صمت وابتسمت حين لاحت لها ـ من بين الذكريات ـ ملامحه التي تضوع من خلالها ابتسامات العطر، وجهه القمري الذي علمها مواقيت الحب، يده التي امتدت إلى كتفها دوما لتمنحها الطمأنينة وصوته الذي يرتج العالم لوقعه والذي يهدأ في حضرتها ليتحول إلى صلوات في معبد الخشوع .

علمها الفرق بين أن تقدر رقته كابنه ولا تغتر أمام صلواته كإلهه..أشركت به بعد طول توحيد ومنحت حياتها لآخر علمها كيف يكون جزاء المشركين..أسيرة هي رغم طبيعتها الحرة ..مبتسمة رغم عمق القهر، علمها ألا تركع سوى لخالقها فعلمها الآخر كيف يكون السجود..

قضت أيامها تقارن بين رجل رفعها إلى عرش مملكته وبين آخر احتل مملكتها وسباها فحرمها التاج والعرش والكبرياء فأضاعت جل حياتها تبكي مملكتها المغتصبة ووشاحها الذهبي المفقود..

بعيدا عن الوطن حيث لا أحد يهتم ولا ابتسامة حب تداوي طعنات القهر طالبها بعودة ومن ذا الذي يتحمل خسائر الرجوع؟

كيف سينظر إلى ملامحها التي طالما علمها الإباء ليجد أخرى ذليلة ..كيف يتحمل ثيابا عادية تضم جسدا نسى التميز ورفل في أزياء اللعنة؟

"لا..لن أعود"

اعترضت أخيراَ حين أمرها الآخر بحزم الأمتعة..

سأل:ــ لم؟

قالت:ــ أشعر أن خطباً مريعاً قد يحدث..لا أجد بداخلي شجاعة تكفي لأعود..

رد بحزم:ــ لقد اتخذت قراري..

عادت إلى وطن لم يعد وطناً..إلى تراب تغير لونه وملمسه فلم يعد يحتضن قدميها ليمنحها الأمان بل يهرب منها وكأنما تعبر دربا من زئبق..

اختلف الهواء ..ذلك العبق الآسر الذي يغزوها في صباحات المحبة اختفى..عبست الشمس، بحثن عن ابتسامات النجوم وهدهدات المساءفاقتحمت خلجاتها شقشقة الخوف فمضت تسأل" لقد تركت هاهنا سماء..بالله أين السماء؟!"

بيته المضيء دوما يقترب فتتراجع خطواتها في خوف..لا ليس هو..تلك الجدران التي صبغها الطمي ليست لنا! تلك الشرفة فقدت لونها...ذلك الهاتف كان يوماً يبتسم..تلك الأريكة تشبه أريكته ..ذلك الستر اخترت شبيهه يوما لكنه عن سترنا يختلف..تلك صورته..نعم صورته لكنها من قبل لك تحمل تلك العلامة السوداء!

هؤلاء يشبهون إخواني ..لكن إخواني لملامحهم مذاق البهجة ولحسنهم لون التحدي..

و..هي..تشبه أمي كثيراً لولا أنها ترتدي الأسود ..

غرفته لا تبتسم كعادتها حين أغشاها ..مسبحته مصلوبة على جدار الحزن...ثيابه البيض هجرت خزانته..ومصحفه استوطن جيب أخي..

خرست الكلمات وتمردت الدموع..فصرخت:"لا تقولوا شيئاً ..الآن فقط علمت..رحل أبي!

 

 

نداء الوطن